أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - القضية الفلسطينية - عماد أبو رحمة - جذور الصهيونية















المزيد.....



جذور الصهيونية


عماد أبو رحمة

الحوار المتمدن-العدد: 2286 - 2008 / 5 / 19 - 10:49
المحور: القضية الفلسطينية
    


 إعــداد عمـاد أبو رحـمة
 نيسان -2008م
 
 
مقدمة:
ارتبطت الأيديولوجية الصهيونية، في نهاية القرن التاسع عشر، باسم تيودور هرتسل، الذي اُعتبر كتابه " دولة اليهود" تجسيداً للأيديولوجية الصهيونية ومخططاً لبناء الدولة اليهودية، إذ دعا في كتابه إلى إقامة جمعية اليهود، التي ستشرف على تنفيذ المشروع الصهيوني، وتحدث عن الشركة اليهودية التي ستنفذ المشروع.
وفي العام 1897 نجح هرتسل في عقد المؤتمر الصهيوني الأول في مدينة بال في سويسرا، وأعلن عن إقامة المنظمة الصهيونية العالمية، وصاغ المؤتمر برنامج الحركة الصهيونية، الذي أكد على أمرين: الأول، تنفيذ إقامة الوطن القومي، أو الدولة اليهودية على نسق الاستيطان الصهيونية  والثاني، الحصول على الموافقة الدولية التي اعُتبرت ضرورية لتحقيق أهداف الصهيونية([1]).
               إن التوقف أمام الحقيقة الاستيطانية الاستعمارية لصهيونية هرتسل ومشروعها المرتبط عضوياً بالمشروع الامبريالي في حقبة الاستعمار الاستيطاني، وكذلك التوقف أمام إسرائيل بكونها امتداد طبيعي لهذا المشروع وموقع متقدم للصهيونية، هي أمر ضروري لفهم الصهيونية وإسرائيل، ولكنها ليست كافية.
               فالصهيونية أعمق غوراً وأكثر تعقيداً من هذا التناول ذلك. أن الإدعاء الصهيوني لا يزال يُصر على أن الصهيونية هي حركة انبعاث قومي، نشأت في أحضان القوميات الأوروبية في القرن 19، وبالتالي فهي تنسب نفسها زيفاً إلى قومية العقل والاستنارة والإصلاح الديني والثورة في القرن السادس عشر والسابع عشر والثامن عشر في أوروبا، والتي بنت أممها ووحدتها على أنقاض التمزق الإقطاعي والطائفي والديني، تحت رايات" الحرية – الاخاء – المساواة".
               إن ما سبق يدعونا إلى العودة إلى الجذور الأولى للفكر الصهيوني وتتبع حركته في إطار حركة الفكر الأوروبي، باعتباره تياراً من تياراتها الفكرية، نشأ في تربتها، وتأثر بتياراتها الفكرية وبتطوراتها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي أنتجت تلك الأفكار قبل هرتسل وصهيونيته السياسية بعدة قرون، وذلك من أجل تفكيك تلك الادعاءات واثبات زيفها وبطلانها.
يحتوي هذا البحث على مجموعة من المحاور، الأول يتناول حركة الإصلاح الديني في القرن الـ16 ونشوء الصهيونية غير اليهودية ( أو الصهيونية المسيحية).
               ونبين كيف أن البروتستانية الصاعدة، وفي إطار ثورتها على الكنيسة الكاثولوكية وسلطاتها المطلقة، أسست لحركة التنوير العقلي ومرحلة الدولة القومية الديمقراطية العلمانية التي اكتسحت أوروبا ، وشكلت محطة فاصلة في تاريخ البشرية، ولكنها في نفس الآن أحيت فكرة المسيحائية ومعها كل الأساطير التوراتية التراثية، وأطلقت تيار الصهيونية  المسيحية قبل ظهور الصهيونية اليهودية بعدة قرون.
               وفي المحور الثاني نتناول حركة الإصلاح الديني اليهودي، التي نشأت بتأثير حركة الإصلاح الديني المسيحي وعلى غرارها، وانسجمت مع أفكار التنوير والتجديد الديني، وساهمت في إخراج اليهود من " الجيتو" إلى فضاء الاندماج والذوبان في الشعوب التي يعيشون بين ظهرانيها .
أما المحور الثالث، فتعرض للصهيونية اليهودية ونشأتها باعتبارها ممهداً للصهيونية السياسية.
ومن المفيد الإشارة هنا إلى أننا في تناولنا للصهيونية، بتعبيراتها المختلفة، قمنا بتناولها باعتبارها تياراً من تيارات الفكر الأوروبي، حيث تأثرت وأثرت فيه، وأكدنا على الينابيع المشتركة للدين والفكر المسيحي واليهودي.
كما حرصنا على تحليل الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي أنتجت هذه الأفكار وتفاعلت معها وأثر كل منهما في الآخر.
وفي النهاية خلصنا إلى مجموعة من الاستنتاجات والخلاصات المرتبطة بالبحث.
وكل ما نتمناه أن تكون هذه الدراسة بمستوى الجهد الذي بذل في إنجازها، وأن تحقق الغايات التي أعدت من أجلها.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
(1)
حركة الإصلاح الديني و نشوء الصهيونية غير اليهودية
في هذا القسم، سنتناول أفكار الصهيونية اليهودية التي أتت بها حركة الإصلاح الديني المسيحي  البروتستانتية  في القرن السادس عشر، و ذلك قبل نشوء الصهيونية اليهودية و قبل قيام الحركة الصهيونية بعدة قرون.
أ-الفكر الكاثوليكي في القرون الوسطى :-
ساد الفكر الكاثوليكي التقليدي في أوروبا خلال العصور الوسطى و حتى القرن ال 16، حيث نشأت حركة الإصلاح الديني و خاضت صراعا ضاريا مع الكنيسة الكاثوليكية . و لم يكن في الفكر الكاثوليكي أي مكان لاحتمال العودة اليهودية الي فلسطين أو لفكرة وجود الأمة اليهودية ، أو فكرة العصر الألفي ذاتها. ذلك إن القساوسة الأوائل  – منذ أن أصبحت المسيحية هي الديانة الرسمية للإمبراطورية الرومانية–  عقدوا العزم على استئصال شأفة أفكار المؤمنين بالعصر الألفي السعيد، و تم ذلك على يد أوغسطين الذي وضع حداً لهذه المشكلة في كتابة " مدينة الله " ، حيث فسر فكرة العصر الألفي السعيد مجازا بأنها حالة روحية وصلت إليها الكنيسة في عيد العنصرة بعد موت و بعث السيد المسيح، رافضا التفسير الحرفي للتوراة ، و معتبرا إن الفقرات الواردة في العهد القديم ، و التي تشير إلى عودة اليهود إلى وطنهم لا تنطبق على اليهود ، بل على الكنيسة المسيحية مجازا ([2]) .
    لقد اعتبرت الكنيسة الكاثوليكية فكرة نهاية الزمان فكرة مدمرة ، و تهديدا لأمن الكنيسة في العصور الوسطى، و رغم إن الاعتقاد الأخروي بعودة المسيح السريعة شاع في القرون الوسطى و ظهر بين الفينة والأخرى ، إلا إن الفكرة بقيت ضمن نطاق الدعوات السرية خوفا من بطش الكنيسة المسيحية في روما ، التي اعتبرتها كفرا و هرطقة ([3] ) .
    إما بالنسبة لليهود ، وفقا للعقيدة الكاثوليكية الرسمية ، فقد اقترفوا إثما فطردهم الله من فلسطين إلى منفاهم في بابل ، و عندما أنكروا أن عيسى هو المسيح المنتظر نفاهم الله ثانية ، و بذلك انتهى وجود ما يسمى "الأمة اليهودية " إلى الأبد ، و لذلك ليس لليهود مستقبل جماعي ، ولكنهم كأفراد يستطيعون إيجاد الخلاص الروحي بارتدادهم للمسيحية. إما النبوءات المتعلقة بعودة اليهود فكانت تؤّول على أنها عودة الإسرائيليين من المنفى في بابل ، و قد تحقق ذلك في القرن السادس قبل الميلاد حين أعادهم قورش الفارسي إلى فلسطين . إما الفقرات التي تنبأت بمستقبل مشرق لإسرائيل ، فكانت تؤّول على أنها تنطبق على " إسرائيل الجديدة " ، أي الكنيسة المسيحية التي اعتبرت " إسرائيل الحقيقية " و الوريث المباشر للديانة اليهودية(لاحظ هنا عملية الفصل بين اليهود المعاصرين و العبرانيين القدامى في فكر الكنيسة الكاثوليكية)، و كانت فلسطين تعتبر الوطن المقدس الذي أورثه المسيح لإتباعه المسيحيين ، و لم تكن القدس توصف بأنها " صهيون اليهودية " ، " بل مدينة العهد الجديد المقدسة"([4] ).
    و بكلمة نقول ، لم تكن أوروبا قبل الإصلاح الديني تعتبر اليهود شعب الله المختار الذي قدر له إن يعود لأرضه المقدسة ، و إذا كان اليهودي مختارا لأمر فهو اللعنة ، حيث اعتبر اليهود مارقين و وصموا بأنهم قتلة المسيح ، و لم تكن هناك بارقة أمل في إعادة بعثهم روحيا أو قوميا و لم يكن ادني فكرة عن تملك اليهود لفلسطين  و كانت اليهودية مجرد اسم لديانة دنيا.
 
ب.نشوء الصهيونية غير اليهودية :
تقوم التعاليم الصهيونية غير اليهودية على مجموعة من الأساطير الصهيونية التوراتية ، التي تسربت للتاريخ و الفكر الغربي عبر حركة الإصلاح الديني البروتستانتي في القرن الـ16 ، و تم غرسها في البيئة غير اليهودية . و كانت هذه الأساطير متوافقة مع تلك التي أصبحت لاحقا المنطق الروحي الباطني للصهيونية اليهودية السياسية ، و هي أساطير " الشعب المختار " و "الميثاق " و"عودة المسيح المنتظر"، إذ جعلت أسطورة الشعب المختار اليهود امة منفصلة عن الآخرين ، فيما ركزت أسطورة الميثاق عن الارتباط السرمدي الدائم بين الشعب المختار و الأرض المقدسة (فلسطين) التي كتبت لهم بناء على الوعد الإلهي ، إما أسطورة ترقب المسيح فقد كفلت للشعب المختار إن يضع حدا لتشرده في الوقت المناسب ، ليعود إلى فلسطين و يقيم وطنه القومي هناك إلى الأبد ( [5] ) .
    تعتبر حركة الإصلاح الديني تعبير ديني يعكس في الجوهر تطلعات الطبقة الوسطى الجديدة لإقامة دولتها الوطنية التحررية و الموحدة في مواجهة سلطان الكنيسة و البابوية، ودمج عناصر الأمة و توحيدها  بالارتفاع فوق الانقسامات الإقطاعية الطائفية  و الفئوية و العرقية . و لذلك فقد وقف لوثر وكالفن ضد كنيسة روما و سلطتها البابوية و مع الكنائس القومية و الحركات القومية([6]). وإذا كانت حركة الإصلاح الديني قد عبرت عن روح عصر التنوير ، باعتبارها للدين مسألة عقيدة لا دخل للدولة بها ، و دعوتها إلى فصل الدين عن الدولة ، فهي بالمقابل تبنت موقف التنوير العلماني من حرية العقيدة والدين باعتباره علاقة بين الفرد و الخالق ، و رفضت تدخل الكنيسة الكاثوليكية في امور الدولة مثلما رفضت وساطة الكنيسة بين الخلق و الخالق ، و دعت إلى تحرير الفرد و المجتمع من سيطرة و سطوة الكنيسة باسم الدين . و بهذا المعنى شكلت البروتستانتية ثورة على الكنيسة الكاثوليكية و معتقداتها .
    في ضوء ما سبق ، كانت المبادئ البروتستانتية التي وضعتها حركة الإصلاح الديني في القرن الـ 16 مغايرة تماما للمبادئ الكاثوليكية السابقة . فقد قامت بترجمة العهد القديم و أعادت اكتشافه ليصبح عنصرا أساسيا في هذه الحركة ، و تطور الاهتمام بالتوراة باعتبارها "كلمة الله" تحت شعار " العودة إلى الكتاب المقدس " ، وأصبح العهد القديم هو المرجع الأعلى للسلوك و الاعتقاد ، و حلت "كلمة الله المعصومة"  –كما جاءت في الكتاب المقدس– محل "الكنيسة المعصومة" التي يمثلها البابا في روما ، و دعي المؤمنون للعودة إلى الكتاب المقدس نفسه باعتباره مصدر المسيحية النقية الثابتة.  
و بهذا المعنى ، يمكن اعتبار هذه الحركة بأنها حركة بعث " عبري " أو " يهودي " ، تولدت عنه وجهة نظر جديدة عن الماضي و الحاضر اليهودي ، و عن مستقبله بشكل خاص.
فالتعبيرات اللاهويته التي جاءت بها حركة الإصلاح هي التي روجت لفكرة إن اليهود " امة منفصلة " ، و أكدت على عودتهم إلى ارض فلسطين.ومقابل الفصل الكاثوليكي السابق و الواضح بين شعب العهد القديم  العبري و بين اليهود المعاصرين ، الذين ينظر إليهم بازدراء ، أصبح العبرانيين التوراتيين يقرنون بأبناء دينهم الحديثين ، و ساد الاعتقاد بين البروتستانتية بأن اليهود المشتتين حاليا سيجمعون من جديد في فلسطين للإعداد لعودة المسيح المنتظر. ذلك إن اهتمام حركة الإصلاح البروتستانتي كان منصبا على العالم القادم،و كان ينظر إلى الحياة بمنظار الأبدية ، و ساد الاعتقاد بالمسيح المنتظر و العهد الألفي السعيد ، اللذين هما من مقومات المبادئ اليهودية التوراتية ( [7] ) .
لقد أصبح ما جاء في الكتاب المقدس (و التوراة اليهودية الجزء الأكبر منه)،بكونه سجلاً لتاريخ الدولة اليهودية القديمة تقوم على مجموعة من الأساطير والخرافات والقصص التاريخية ، هو التاريخ المعترف به بل و مصدر المعلومات التاريخية العامة ، و غدت قصص و شخصيات العهد القديم مألوفة ، و أضحى الكثير من البروتستانت يروونها عن ظهر قلب ، و أصبح المسيح نفسه معروفا ليس بوصفه ابن مريم ، بل كواحد من سلسة طويلة من الأنبياء العبرانيين، و حل إبطال العهد القديم محل القديسين الكاثوليك .
    كما أصبحت فلسطين أرضا يهودية في الفكر المسيحي في أوروبا البروتستانتية و أصبح اليهود هم الفلسطينيون الغرباء في أوروبا ، و الذين سيعادون إلى فلسطين عندما يحين الوقت المناسب ، و عندما أصبح ذلك جزء من طقوس العبادات و الصلوات في الكنيسة ، اتخذت التعاليم الصهيونية غير اليهودية شكلا ثابتا و حظيت بمكانة راسخة في ضمير أوروبا القومي ( [8]) .
    و أعطت حركة الإصلاح اللغة العبرية وزنا كبيرا ، باعتبارها اللسان المقدس و اللغة التي أوحى بها الله لشعبة بعد إن كانت الكاثوليكية التقليدية ترى إن دراسة العبرية هرطقة و بدعة يهودية ، و سرعان ما أصبحت معرفة العبرية جزء من الثقافة الأوروبية العامة ، بل إن حركة الإصلاح جعلتها جزء من المنهج الدراسي اللاهوتي ، و انكب رجال الدين و المسيحيون العاديون على دراسة أدب الأحبار ، و أصبحت العبرية مسألة ثقافة واسعة كما هي مسألة دين ، و تسربت " الروح العبرية " الجديدة إلى الفنون و الآداب ، و تركت بصماتها على الحضارة الأوروبية ([9]  ) .
    لقد استمرت هذه الحركة في استقطاب أنصار لها في كل فترات التاريخ التي تلت حركة الإصلاح الديني ، و بلغت ذروتها في القرن العشرين في مذهب " العصمة الحرفية " الامريكيي ، الذي يصر على إن إسرائيل هي التحقق الواقعي للنبوءة في العصر الحديث ، و ذلك على الرغم من الاضطهاد الذي تعرضت له الطوائف المعمدانية من قبل الكنيسة الكاثوليكية ، و حتى على يد الكنائس اللوثربة و الكالفينية الرسمية التي كانت تضطهدها بعنف باعتبارها قوى مارقة . ففي هولندا و سويسرا بقيت هذه الفرق على قيد الحياة و دفعت الثمن خضوعا للكنيسة ، و في انجلترا حظيت العقيدة الجديدة باحترام كبير ، و أصبح لها أنصار في البرلمان( [10] )..
    خلاصة القول ، إن اهمية حركة الإصلاح الديني تكمن في تمهيدها الطريق للأفكار الصهيونية عن الأمة اليهودية ، و البعث اليهودي ، و كون فلسطين وطنا لليهود . هذه الأفكار التي لاقت رواجا فيما بعد ، حيث كان للصهيونية غير اليهودية ممثلون بارزون في كل فترات التاريخ التي تلت حركة الإصلاح الديني – كما سنرى لاحقا – و تحولت من عقيدة لاهوتية مسيحية إلى أيدلوجية سياسية للغرب المعاصر ، ثم للحركة الصهيونية .
ج.البيورتيانية الانجليزية :
تعتبر البيورتيانية اشد إشكال البروتستانتية تطرفا ، و الوريث الشرعي المباشر للكالفينية ، ووصلت النهضة العبرية ذروتها عبر ما عرف بالثورة البيورتيانية في انجلترا في القرن السابع عشر ، حيث غالوا في إجلال الكتاب المقدس ، و أعطوا الأولوية للعهد القديم ، على غرار عهد الكالفينية في جنيف ( [11] ).
لقد جلبت البيورتيانية لانجلترا اجتماعيا و فكريا الغزو " العبري " الذي كان قد اجتاح القارة الأوروبية ، و قد وجد البيورتيانيون في العهد القديم مثالا سماويا للحكومة الوطنية ، و دلالة واضحة للقوانين التي يجب على البشر إتباعها، وكانت النزعة العامة لديهم هي التخلي عن المبادئ الخلقية المسيحية، و الاستعاضة عنها بالعادات اليهودية، و اتبعوا نص القانون القديم بدلا من التعبيرات الصادرة عن فهم التعاليم المسيحية، و بلغت الأمور حد مطالبة " اللفلرز" (مجموعة جمهورية متطرفة من البيوريتانيين) ) الحكومة بإعلان التوراة دستورا للقانون الانجليزي، و ذهب آخرون إلى ابعد من ذلك فاعتنقوا اليهودية ، كما فعل جون تراسك و جميع إتباعه و بعض الشخصيات المهمة ، كالرسام و الفنان الشهير الكسندر كوبر ، أما الذين بقوا على مسيحيتهم فقد نظروا بعطف متزايد إلى الذين يطلق عليهم " شعب الله القديم". من المفيد الإشارة هنا إلى إن الدعوة "البيورتيانية الصهيونية" كانت عاصفة خلال القرن الذي أعقب عصر النهضة ( 1771 ) ، و ذلك يعود إلى الحروب الدينية التي جلبت مع عدم الاستقرار الاجتماعي جوا مشبعا بالأفكار الصوفية و التوقعات المتعلقة بنهاية الزمان بين كافة الطبقات ، و في جميع دول أوروبا.
    و تشير المصادر التاريخية إلى إن كرومويل كان عضوا في هذه الجماعة ، فبعد إن حل "البرلمان الطويل" عام 1653 استبدله " بالبرلمان القصير" المكون من القديسين فقط ) أي البيورتياريون) ، وكان مجلس الدولة يتكون من سبعين عضوا ، أسوة بعدد أعضاء المجلس الأعلى اليهودي القديم . ( [12] )
    وفي عام 1649 أرسل جواناوواينز الانجليزيان المقيمان في أمستردام ، استرحاما للحكومة الانجليزية جاء فيه  " ليكن شعب انجلترا و سكان الأراضي المنخفضة أول من يحمل أبناء و بنات إسرائيل على سفنهم إلى الأرض التي وعد بها أجدادهم إبراهيم و إسحاق و يعقوب لتكون ارثهم الأبدي" .( [13] ) و كانت هذه هي المرة الأولى في تاريخ فكرة البعث اليهودي التي يقدم فيها عمل من صنع البشر على انه الطريق الوحيد لتحقيق الهدف الذي كان يعتبره اليهود و غيرهم امرأ روحيا لا يتحقق إلا بتدخل العناية الإلهية.
    وتشير المؤرخة اليهودية بارربرا تخمان([14]) إلى أن الحركة من اجل البعث اليهودي لم تكن من اجل اليهود أنفسهم و حسب، بل من اجل الوعد المعطى لهم أيضا.فقد كان ينظر إلى العودة على أنها اعتناق اليهود للمسيحية ، لان هذه هي علامة تحقيق الوعد ، و عليه فقد كان كثير من البيوريتاريين يعتقدون ، بدافع عبريتهم، إن من اليسير على اليهود إن يتحولوا إلى المسيحية.
    و من الضروري أيضا الإشارة إلى إن البعد النفعي و المصالح المادية كانت حاضرة بقوة في اهتمام البيوريتانيين البريطانيين، و بهذا الصدد تضيف باربارا توخمان بأنه منذ عهد كرومويل أصبح أي اهتمام بريطاني بفلسطين يعتمد على دافعين متلازمين: دافع الربح ، تجاريا أو استعماريا أو عسكريا ، و الدافع الديني.. و لم يكن يحدث شيء حين يغيب أي من هذين الدافعين ، كما حدث بالفعل عندما فتر المناخ الديني في القرن ال18. في مؤتمر وايت هول الذي دعي كرومويل لعقده سنة 1655 لبحث شرعية و ظروف دخول اليهود الي انجلترا ، تدخل بشكل شخصي للسماح بدخول اليهود ، و جاء في نصوص المؤتمر : "السماح بدخول اليهود لدولة بروتستانتية ينبغي إن لا يكون قانونيا فحسب ، بل امرأ نفعيا أيضا" " ([15]  ) ذلك إن الحرب الأهلية التي سبقت العهد البيوريتاني كانت قد ألحقت ضررا كبيرا بمركز انجلترا كقوة تجارية و بحرية ، و وجد الألمان الفرصة سانحة للسيطرة على الطرق التجارية للشرقيين الأدنى و الأقصى ، و كان من المعروف إن لليهود الألمان فضلا في اتساع التجارة الألمانية بداية القرن ال 19 ، كما إن كرومويل كان منهمكا ، آنذاك ، في سلسلة من الحروب التجارية مع البرتغال و اسبانيا و الأراضي المنخفضة ( هولندا) ، و أراد الاستفادة من مواهب و ثروات جماعات اليهود المعروفة في التجارة في تلك البلدان ، من خلال التجار اليهود في انجلترا لمساعدته في حروبه و تزويده بمعلومات مهمة عن السياسات التجارية للدول المنافسة له . هذا بالإضافة لاستفادته من رؤوس الأموال اليهودية الضخمة التي سيجلبها اليهود معهم إلى إنجلترا لاستثمارها في الصناعة([16]) .
    لقد تضاءلت اهمية " العبرية " في الحياة الانجليزية بعد موت كرومويل سنة 1658 ولكنها لم تفقد جاذبتها بالنسبة للكثير من المسيحيين المتعاطفين معها . و مع عودة آل سيتورات للحكم عام 1660 هزمت البيورتيانية نفسها ، ثم قضي عليها نهائيا في عهد الثورة المجيدة سنة 1668، إلا أنها استمرت و ازدهرت في بيئة عصر العقل المعادية لها في القرن ال  18 و الأهم من ذلك أنها لفتت أنظار الساسة الأوروبيين إلى إمكانية توظيف الصهيونية و مقولاتها في خدمة أهدافهم الاستعمارية –  الاستيطانية.
 
د.الصهيونية الألفية في بقية دول أوروبا ( [17] ) :-
    انتشرت أفكار الصهيونية الألفية في جميع إنحاء أوروبا. ففي هولندا توطدت البروتستانتية ، مما أدى إلى تدخل الحكومة الاسبانية الكاثوليكية في حرية الدين ، وقامت ثورة عام 1556 ، وأسفرت عن انتصار القوات البروتستانتية وتأسيس جمهورية بروتستانتية مستقلة عام 1609 تضم أراضي هولندا الحالية .
    و في فرنسا كان لهذه الأفكار الألفية من آمن بها ، خاصة في المناطق الجنوبية ، و ممثلهم البارز "اسحق دب لابير" (1594-1676 ) الذي كتب " عودة اليهود " و دعا إلى إحياء إسرائيل بتوطين الشعب اليهودي في الأراضي المقدسة. و قد بعث باسترحام للملوك الفرنسيين ، لكن رسالته لم تنشر إلا بعد قرنيين ، عندما دعا نابليون إلى اجتماع السنهدرين اليهودي في مايو 1806 م .
    و في ألمانيا اللوثرية انتشرت الأفكار الألفية الصهيونية ، و كانت هامبورغ مشهورة في القرن السابع عشر بكونها الموطن الأسطوري لليهود في القارة الأوروبية ، و بأنها مركز الحركة التقوية الألمانية ( حركة صوفية روحية تركز تعاليمها الأخروية على عودة الشعب اليهودي إلى فلسطين) .
أما الدول الاسكندينافية ، فقد انتشرت فيها الأفكار الألفية ، و في الدانمارك حث هولجربولي ملوك أوروبا على القيام بحملة صليبية جديدة لتحرير فلسطين و القدس من الكفار و توطين اليهود وارثيها الأصليين و الشرعيين، و في العام 1999قدم خطة مفصلة لملك انجلترا وليم الثالث ، يطلب فيها إعادة احتلال فلسطين و تسليمها لليهود لإقامة دولة خاصة بهم. و تعتبر أفكار هولجرجولي في ذلك الوقت محاولة جريئة للربط بين الطموحات الدينية لدعاة بعث اليهود و الإحداث السياسية.
هـ. أثر الأفكار الصهيونية الألفية في الأدب والفكر الأوروبي ( [18] ):-
 يعتبر القرن الـ17 هو العصر الذهبي للأدب الديني الألفي والأفكار اللاهوتية المتعلقة بعودة اليهود ,ولقد ترك هذا الادب اثرا بالغا على عدد من المفكرين والفلاسفة والعلماء . ومن هؤلاء نيوتن الذي توصل في كتابه " ملاحظات حول نبؤات دنيال ورؤيا القديس جون  إلى أن "اليهود سيعودون إلى وطنهم ,لا أدري كيف سيتم ذلك ولنترك الزمن يفسره "، وذهب إلى أبعد من ذلك حين حاول وضع جدول زمني للأحداث التي تفضي إلى العودة ,وتوقع تدخل قوة أرضية من أجل إعادة اليهود المشتتين ".
وجاء في كتاب ورسو عن التعليم عام 1762: " لن نعرف الدوافع الداخلية لليهود أبدا حتى تكون لهم دولتهم الحرة ومدارسهم وجامعاتهم "
واعتبر باسكال أن " إسرائيل هي البشير الرمزي للمسيح المنتظر ,وعبر عن احترامه الشديد لانجازات اليهود –" الأمة الأولى "- وتمسكهم الصادق بدينهم " 
وفي المقابل وجه فولتير نقدا عنيفا في القرن الـ 18 لتقديس التاريخ اليهودي واعتبار الشعب اليهودي أقدم شعب عرفه الإنسان.
وسارت فلسطين واليهود جنبا إلى جنب في أفكار المؤرخين الصهاينة ,حيث صوّر برستلي فلسطين أرضا غير مأهولة ,أهملها مغتصبوها الأتراك ولكنها مشتاقة ومستعدة لاستقبال اليهود العائدين . وفي القرن الـ 18 ,الذي يعتبر العصر الكلاسيكي للعقل الذي ازدهرت فيه الاكتشافات العلمية وتعارضت فيه اهتمامات العلماء والفلسفة مع التعاليم المتعلقة بالأخريات ,حاولوا إيجاد تفسيرات علمية لعودة اليهود إلى فلسطين على غرار نيوتن ,ثم جون لوك الذي كتب " إن الله قادر على جمع اليهود في كيان واحد وجعلهم في موضع مزدهر " وذلك في كتابه " تعليقات على رسائل القديس بولس".
وتعتبر الفلسفة الألمانية مسئولة عن إيجاد الإطار النظري الذي كان أساس لا سامية القرن العشرين ,فميولها كانت صهيونية على الرغم من عدم دخول عودة اليهود في هيكل نظامها الفلسفي . إذ اعتبر الفيلسوف وعالم اللاهوت جوترايد هارد اليهود القدامى أمة فريدة مستقلة   عن سائر الأمم وكان يضمر احتقاراً لليهود المعاصرين الذين أخفقوا في تأكيد قوميتهم وإحساسهم القومي ولم يغلب عليهم الحنين لأرض الأجداد ,رغم الظلم الواقع عليهم.
وفختة , الذي كان عداؤه لليهود مشوبا بأفكار صهيونية ,لم يكن في نظره مكان لليهود في أوروبا ,وعليهم أن يعودوا إلى فلسطين حيث نبتت جذورهم ,ولم يكن لدى أوروبا حل لمشكلتهم إلا "باحتلال أرضيهم المقدسة وإعادتهم إليها جميعا "
و.الإنجيلية الصهيونية في القرن الـ 19 : -
كان للثورة الفرنسية أثرا عميقا وشاملا على مجمل الأوضاع في اوروربا . فقد أحدثت صدمة عميقة لدى الكنيسة الإنجليزية الرسمية , التي اعتبرت هذه الثورة نتيجة طبيعية للمذهب العقلي ,وأحيت العودة للكتاب المقدس وأسفاره وفكرة عودة العصر الألفي السعيد , ومعه الصهيونية غير اليهودية . وشهدت انجلترا مع بداية القرن نهضة تبشيرية مشابهة في مبادئها ومعتقداتها لتلك التي كانت سائدة في عصر البيورتيانية في القرن الـ17 ,والتي اعتبرها كريستوفر سايكس " الوثبة الثانية للنبوغ البيوريتاني "ووصفتها باربارة تخمان بـ " الفترة العبرية الفاصلة في التاريخ الانجليزي " ( [19]  ) .
لقد جاء تتابع الأحداث السياسية والعسكرية والحروب التي خاضها نابليون ليضفي على أفكار الصهيونية الألفية مسحة واقعية ولدت لدى الجماهير إحساسا بأن ما كان يحدث أمام أبصارهم هو تسلسل لأحداث سفر الرؤيا ,التي وردت في النبوءات عن أخر الزمان . وقد جاءت حملة نابليون على فلسطين في عام 1799 لتصب في ذات الاتجاه.
    والجدير بالذكر أن فكرة " العودة اليهودية " لم تعد ,آنذاك ,موضوعا للبحث الأكاديمي المجرد ,بل أصبحت صيغة واقعية مرتبطة بالأزمة السياسة السائدة في أوروبا , ولم يعد الأمر بحاجة للجيل الجديد من المؤمنين بالعصر الألفي السعيد , حيث تكفلت الأحداث بالتبشير بتلك العودة . وتدريجيا أخذت الأفكار السياسية تتسرب إلى العقيدة , التي كانت حتى الآن دينية بحتة , وأصبح للقوى الأرضية دور عليها أن تقوم به ,ولم تعد التوبة وارتداد اليهود للمسيحية شرطا للعودة اليهودية لأرض فلسطين.
     وفي عام 1790 قرر ريتشرد بيرد ( أسقف ساند بروك ) إحياء الاسترحام الذي قدمه كارترايت عام 1649 , حين طلب من رئيس الوزراء الانجليزي وليم بت إن يساعد على تحقيق " عودة اليهود نهائيا للأرض المقدسة , وأضاف بأن انجلترا وأسطولها التجاري سيستفيدان سياسياً واقتصادياً.
    وفي عام 1800 نشر جيمس بشينو كتابه " عودة اليهود : أزمة جميع الأمم " الذي اعتبر فيه عودة اليهود قضية دولية . وكانت العودة عنده متوقعة في هذه الايام وغير مرتبطة ابدا بتحول اليهود للمسيحية،وكان أشد ما أزعج بشينو في حملة نابليون احتمال أن يكون لفرنسا موطئ قدم في فلسطين، وحين بلغه حديث عن أن نابليون ينوي احياء دولة يهودية في فلسطين , شن هجوما عنيفا على حكومته لتحالفها مع تركيا ضد فرنسا , وحذر من احتمال سيطرة فرنسا على البحر المتوسط وتهديد التجارة الوطنية في الشرق الأقصى (  [20] ) .
    من خلال الاستعراض السابق , يمكننا القول بأن الفكرة الألفية الصهيونية التي انتشرت في أوروبا منذ حركة الاصلاح الديني في القرن الـ 16 , قد بدأت كفكرة دينية خالصة , ثم تداخل الديني بالدنيوي ( النفعي ) في عهد , أو منذ عهد كرومويل , وانتهت إلى سيطرة الدنيوي ( المصالح الكبرى للدول الاستعمارية في الحقبة الامبريالية )والتي التقت مع مصالح الحركة الصهيونية الصاعدة بوصفها التعبير عن مصالح البرجوازية اليهودية , وانجب هذا اللقاء وعد بلفورا لذي اسس لقيام دولة اسرائيل , بكونها تجسيدا لمصالح الصهيونية في اقامة الوطن القومي لليهود ,والمصالح الامبريالية البريطانية في السيطرة على الوطن العربي من جهة أخرى .
 
 
( 2)
حركة الإصلاح الديني اليهودي
 
أ. مرحلة ما قبل عصر التنوير والإصلاح الديني
          يقول الدكتور رشاد الشامي ([21] ) لايمكن فهم الطابع الانعزالي للحياة اليهودية دون إلقاء الضوء على دور الدين اليهودي داخل هذا النسق من الحياة . ذلك أن الدين اليهودي ظل لفترة طويلة ، منذ القرن الثاني ق . م وحتى منتصف القرن الثامن عشر ، هو العامل الرئيسي في توجيه الحياة اليهودية .فالقوانين اليهودية المختلفة الخاصة بقانون الطعام ( الكاشير ) وتحريم الزواج المختلط ، والختان وصلاة الجماعة ( المنيان ) ، وعادات الدفن الخاصة ، والمحظورات المقدسة التي تحرم متاع الدنيا ... كل هذه القواعد والمحظورات التي فرضها حاخامات اليهود بتشدد لا يسمح بأي قدر من التجاوز هي التي عمقت طابع العزلة ، وكانت تهدف إلى تذكير اليهودي بانفصاله وتميزه وتفرده .
     فاليهودية ما برحت ، منذ ظهورها حتى الوقت الحاضر ، عبادة قبلية لجماعة خاصة متفردة ، ولم تتوقف في أي وقت من تاريخها عن أن تكون جزء لا يتجزأ من الثقافة الخاصة لتلك الجماعات ، وذلك رغم تطور فكرة " الإله اليهودي " ليصبح الحقيقة الروحية المطلقة للكون بأسره بالإضافة إلى أن تشتت اليهود بنزعتهم القبلية قادت إلى تحجر الديانة اليهودية وعزلتها .
      كما أن المحاولات التي تمت على يد الحاخامات اليهود لتدوين التراث الشفهي اليهودي ( التلمود )، الذي يضم اجتهاداتهم في تفسير الدين اليهودي ، أدخلت إلى الدين اليهودي مجموعة من الأفكار المحورية  التي كرست سيطرة الحاخامات ، وخلقت عند اليهود استعدادا للانعزال عن " الاغيار " ، وعمقت بعض العقائد لدى اليهود ، مثل عقيدة " شعب الله المختار " و" الشعب المقدس " و " انتظار المسيح " وغيرها من العقائد التي أكدت مع مرور الأجيال انفصالية اليهود وإحساسهم بالتفرد ([22] ) .
سلطة الحاخام في " الغيتو "([23])
كان الحاخام في " الششتل "([24]) يعد الزعيم الديني والعلماني ، وكان المعبد بمثابة المركز الديني والثقافي والتعليمي والاجتماعي ، فوظيفته لم تكن كهنوتية وحسب ، بل كانت تتضمن وظيفته كمركز للحياة الاجتماعية ، ومناقشة شئون الطائفة ، بالإضافة لوظيفة المدرسة .
     وكان هناك نوعان من المعابد ، إحداها " بيت هكنيست " ، وهو عبارة عن منزل عبادة صرفة  ويغلق في ساعات النهار ، والآخر هو "  بيت همدراش " ويظل مفتوحا طوال اليوم للدراسة وللأغراض الاجتماعية،وفي المجتمعات الكبرى كانت توجد معابد خاصة يمتلكها الأثرياء . ولعل هذا التنوع في المعابد يعكس الجنون اليهودي بالطقوس الدينية ، مثلما يؤكد الدور المركزي لرجل الدين ( الحاخام ).
      وكان التعليم في أبسط صوره تعليما دينيا صرفا يبدأ بمرحلة "  الحيدر" ( مدرسة ابتدائية خاصة صغيرة)، ثم " تلمود توراه " ، وتتوج بـ"  اليشيفا " ( الأكاديمية التلمودية التي تماثل الدراسات العليا ) . لقد استهدف التعليم التقليدي منح المعرفة باللغة العبرية والتوراة، وتوجيه التلميذ في دوائر الفكر اليهودي الموروث وإعداده لطابع الحياة اليهودية الخاصة، وكان النظام التعليمي اليهودي قائما على افتراض أن " شريعة إسرائيل " هي ذروة أعمال الرجل اليهودي في حياته ومعيار مركزه الاجتماعي.
     في ظل هذا النظام الانعزالي ، الطوعي ، المتمحور حول الدين وسلطة الحاخام والإيقاع التنظيمي ذي الطابع الاقتصادي الهامشي ( كما سنبين لاحقا ) تبلورت السمات السيكولوجية الأساسية "للشخصية اليهودية الجيتوية " ، التي عانت نوعا من الانفصام في الرؤية ، وباتت السمة الرئيسية لهذه الشخصية هي : " عقدة التناقض بين الشعور بالاستعلاء والشعور بالدونية والاضطهاد "([25]).
     لقد صاغ الفكر الديني اليهودي العقلية اليهودية في إطار من العنصرية التي تسبغ على اليهود صفات المديح والتعظيم ، في الوقت الذي تتعامل فيه مع الشعوب غير اليهودية " الجويم " ([26]  ) بسيل من أوصاف العنصرية والشتائم ، التي تؤكد أن الاستعلاء هو أساس ثابت في تكوينها . وبهذا الصدد يقول الأديب الصهيوني يوسف بريبر عن هذه النزعة الاستعلائية " يجمع كتاب تاريخنا على أن أجدادنا ، يهود الجيتو القديم ، كانوا يحسون بنوع من الكبرياء والسمو بالنسبة لـ" الجوى " حتى عندما كانوا يقبلون يديه ويركعون أمامه ([27]  ) .
دور العامل الاقتصادي
في كتابه " المفهوم المادي للمسألة اليهودية " يؤكد ابرهام ليون "إن دراسة الدور الاقتصادي لليهود هو الذي يساهم -لا غيره - في توضيح أسباب " المعجزة اليهودية " ( [28] ) .
لقد اشتغل اليهود عبر تاريخهم جميع المهن ,بجانب التجارة ,فقديما استقروا في أرض زراعية ,وفي عهد مملكة سليمان عملوا بالتجارة إلى جانب الزراعة  ,وفي فترة السبي البابلي اشتغلوا بالتجارة لاستحالة تملك الأراضي والعمل الزراعي ,ولاحقا عملوا بالزراعة في أماكن متعددة في أوروبا ([29] ).
أما في القرون الوسطى فهناك أسباب محددة جعلت اليهود يتخصصوا في التجارة الدولية والمحلية وأهمها([30]):
·        أن النظام الإقطاعي لا يسمح بتملك الأرض إلا للنبيل ( الفارس ) المسيحي وبالتالي لا مجال لتملك اليهود للأرض.
·        النشاط الرئيسي آنذاك كان الزراعة أما التجارة فاعتبرت نشاط هامشي يقوم به الآخرون .
·   الدين المسيحي ( الكاثوليكي) يمنع العمل بالربا ويركز على الزهد في الدنيا على عكس الدين اليهودي الذي تتحدث أجزاء من تلمودة عن التجارة باعتبارها أشرف المهن وعن الإقراض باعتباره هدية من الله.
·        وجود شبكة اتصال فعالة لليهود بسبب وجود تجمعات لهم في أماكن متعددة ساعدهم على الاشتغال بالتجارة الدولية.
لقد هيأت الأسباب السابقة لليهود التخصص في التجارة الدولية منذ سقوط الإمبراطورية الرومانية حتى كادوا أن يحتكروها قبل القرن11، وكانوا هم حلقة الاتصال التجاري بين بلاد المسيحيين وبلاد الإسلام وبين أوروبا واسيا، بالإضافة إلى اشتغالهم في التجارة المحلية وعملهم كباعة متجولين. وبالمقابل جعلتهم نفس الأسباب يتجمعون كطائفة في سكن متقارب تعيش في مجتمع تجاري - يهودي على هامش مجتمع زراعي مسيحي وتكرست اليهودية كبرجوازية بدائية متجمدة أو بناء فرعي تجاري لا تساهم في العملية الإنتاجية (  [31] ) .
 
من التجارة إلى الربا
استمر احتكار اليهود للتجارة الدولية في القرن الـ11، حيث بدأ فك هذا لاحتكار مع الحروب الصليبية والاستيلاء على بيت المقدس وعلى خطوط التجارة الدولية. ذلك أن الحروب الصليبية عكست مطامح طبقة تجارية جديدة ولدت من رحم المجتمع الأوروبي ولها مراكز قوة في أوروبا ومدن تجارية وأساطيل، واستطاعت هذه الطبقة التفوق على التجار اليهود وكسر احتكارهم للتجارة الدولية فانسحبوا إلى مجال التجارة المحلية، وبظهور طبقة التجار المسيحيين ونقاباتهم التي تدعمها السلطات وإزاء الملاحقة والمذابح التي تعرض لها اليهود بفعل هذه التحولات الاقتصادية والاجتماعية ،لم يجد التجار اليهود أمامهم إلا تحويل مدخراتهم إلى النوع السائل السهل التحرك فاتجهوا إلى مبادلة النقد ثم الإقراض بربا. ومما ساعدهم على الانتقال السريع من التجارة إلى الربا حاجة المجتمع الأوروبي للمال السائل لتمويل الحملات الصليبية وبناء الكاتدرائيات.
 وبحلول القرن الـ 13 كان معظم اليهود في البلاد التي تسري عليها لوائح الكنيسة الكاثوليكية، باستثناء جنوب ايطاليا واسبانيا  تعتمد بشكل مباشر أو غير مباشر على مهنة الربا (  [32] ).
لقد ترتب على ماسبق جملة من النتائج كان أبرزها ([33]) :-
·   ارتبط اليهود في الوجدان والواقع الأوربيين بالنشاطات التجارية والمصرفية حتى أن كلمة يهودي أصبحت مرادف لكلمة تاجر أو مرابي.
·   شجعت الدول اليهود على لاستيطان بها وذلك لإنعاش حركة التجارة من خلال قيامهم بدور الوسيط بين الوحدات الزراعية المختلفة.
·   سن الملوك قوانين تعطيهم ضمانات خاصة بحرية الحركة والبعض وعدهم بملكية خاصة. كما نصت الشرائع على أنهم ( اليهود ) رجال الملك يرثهم من يرث العرش.
·        وفر اليهود المال السائل اللازم لتسهيل العمليات الائتمانية والقروض التي يحتاج لها المجتمع الإقطاعي.
·   أصبح المرابي اليهودي موضع شك وكراهية من قبل الجماهير، وذلك، بحسب ماركس ( [34]) "لأن المرابي لم يكتف بابتزاز فائض العمل من ضحيته بل كان يستولي تدريجيا حتى على شروط عملها من عقار ومسكن وكان منهمكا باستمرار في نزع ملكيتها"، وكان سعر الفائدة باهظا لعدم وجود ضمانات وبلغ في بعض الأحيان 220% .
·   شكل اليهود أقلية اقتصادية تعيش بمعزل عن بقية طبقات المجتمع في مناطق خاصة بهم. ولم يكن ذلك أمرا شاذا ومقصورا عليهم، فالفصل بين الطبقات والفئات كان أمرا طبيعيا وسمة جوهرية من سمات التنظيم الاجتماعي المعمول به في العصور الوسطى الإقطاعية.
لقد كان إنشاء الأحياء التي تركز فيها اليهود، طواعية برغبتهم بصفتهم أقلية دينية , ففي العام 1084 منح أسقف مدينة سبير اليهود الحق في أن يعيشوا داخل حي خاص بهم محاط بأسوار عالية ,وعندما غزا المسيحيون الأندلس طالب اليهود بالحق نفسه . واعترف اليهود بالجوانب الايجابية للجيتو ,حتى انه كانت تقام الصلوات كل عام في جيتو فيرونا احتفالاً بالذكرى السنوية لإنشائه ([35]).
إن ما سبق لا ينفي حقيقة أن البناء الحضاري والديني للجيتو قد زاد من عزلتهم حيث عاشوا في شبه عزلة تامة، وعمقت القوانين الدينية اليهودية من عزلتهم , وامتدت الانعزالية للغة (مجرد النظر لأبجدية الأغيار كان يعد كفرا ) ،وفي الأزياء وكيفية إطلاق اللحى والسوالف وغيرها.
وعندما انهار الأساس الاقتصادي للجيتو لاحقا، تسبب في انهيار معنوي وأخلاقي كامل ,وزاد من حدة اضطهاد العالم الخارجي للقاطنين فيه , وأصبح الجيتو المكان الذي يعزل فيه اليهود ويحاصرون بعد أن كان المكان المقصور عليهم كما سنرى لاحقا . وحدث ذلك بفعل التحولات الاقتصادية والاجتماعية التي عاشها غرب أوربا , وأدخلتها في أزمة اجتماعية عنيفة نتج عنها أشكال اضطهاد ومذابح بحق اليهود. ذلك أن الرأسمالية الأوروبية الصاعدة بطورها الجديد وجدت في سيطرة اليهود واحتكارهم للعمليات الائتمانية والصرفية عائقا أمام تقدمها , وكان لابد من كسر هذا الاحتكار،  وكان لابد من إيجاد جهة يوجه نحوها غضب الجماهير التي تضررت بفعل تلك التحولات فكان اليهودي " التاجر " ثم " المرابي" , الذي امتلأت صدور الجماهير الفقيرة كرها له خير من يوجه نحوه الغضب([36]). 
ب. مرحلة الإصلاح الديني اليهودي :
تعتبر حركة الإصلاح الديني اليهودي تعبير يهودي , لايختلف في جوهره عن المسيحي ,وعن نزوعات الوحدة الوطنية والقومية التي أصبحت تمثل الإرادة الأقوى والأعلى على كل الخلافات الطائفية والعرقية أو الدينية . فقد فتح التنوير الطريق لحضارة أوروبية مشتركة تقوم على مثل العقل والأخلاق ولم يعد الدين العنصر الحاسم بل أصبحت السيادة للاتجاه العلماني وانتشرت التيارات الاندماجية انتشارا واسعا في هذه المرحلة من صعود الرأسمالية.
جاءت حركة الإصلاح الديني اليهودي كثمرة مباشرة لتيارات التحرير السياسي والمدني منذ القرن الـ17 ووجدت تعبيرها في البداية في ميدان الفكر والعبادات , بقصد التخلص من الطقوس والمظاهر الخارجية في الدين اليهودي، فاليهودية الإصلاحية تدعو إلى الرجوع إلى الموسوية اليهودية البدائية , وتبسيط العبادات وحذف الكثير منها فيما يتعلق بأمور اندثرت بعضها يرجع إلى بابل كما أدخلت الكورال والأغاني إلى المعبد بدل الترانيم والصلوات المباشرة .
وظهرت في منتصف القرن الـ18 فرقة يهودية أخرى هي فرقة المتصوفة (الحصيدية ) التي انتشرت على يد حاخامين صوفيين، ورغم ما شابها من دروب البدع والخرافات , إلا أنها مثلت شكلا من أشكال التمرد , وإرهاصا بحركات الخروج من الجيتو وتغليب العاطفة على الطقس وعلى الجمود الديني، حيث دعت إلى التجديد العاطفي وليس الفكري وحولت الاهتمام إلى الشخصية الإنسانية،وحياتها الروحية , وأصبح الإنسان بعاطفته وجوانحه مع الله مباشرة دون ممارسات طقوسية، وانتشرت في نفس الفترة تيارات أخرى سبتيه ومسيحائية مما أشاع جوا من الفوضى الدينية ([37]).
 
مندلسون رائد وفيلسوف التنوير
يعد مندلسون رائدا لحركة الإصلاح الديني اليهودي حيث تأثر بأيديولوجية الاستنارة والتفتح والعقلانية , وبالمقابل كان شديد التمسك بعقيدته اليهودية والحرص على التراث الديني اليهودي، وأعطت ترجمته لأسفار موسى الخمسة إلى الألمانية دفعة قوية لأنصار التنوير، فقد كان لها نفس الأثر في التنوير اليهودي الذي كان لترجمة لوثر للإنجيل في التنوير المسيحي ,حيث كسرت أمواج الجيتو العقلي ,وقدمت البديل عن الدراسة اليهودية التقليدية والتراثية التي تستند إلى التلمود، وأحدثت في تراث الحاخامية  وسلطانها ذات الشرخ الذي أحدثه لوثر في الكنيسة وتراثها الطقسي . وبتأثير روسو قامت مؤسسات تعليمية تخدم الأهداف الجديدة وتعلم اللغات الحديثة والرياضيات ودروس المواطنة والأخلاق والسلوك , محل التعليم اليهودي التقليدي , كما قُدّم الكتاب المقدس ومبادئ  الدين اليهودي بفهم ليبرالي ([38]  ) .
أنصبت جهود مندلسون على محاولة الملاءمة بين عقيدة الأجداد وعصر التنوير وتطهير الدين اليهودي من المحتوى العرقي الذي احتفظ به منذ أصوله البعيدة، مع الحرص على نقاوة العقيدة الموسوية وجوهرها الأخلاقي,وتأسست أول معابد الإصلاح في هامبورج عام 1818م ,وكسب تيار الإصلاح والاستنارة اليهودية الانجلو-ساكونية ,وغمر غرب أوروبا بكاملها. لقد أصبحت قضية الأخلاق والقيم هي الوجه البارز لفلسفة التنوير عموما بعد أن افلت الفرد من سلطان البابوية والحاخامية وأصبح العقل والفردية والانسانية هما أساس السلوك ومعيار القيم.
واعتبر مندلسون الدين مسألة عقيدة لا دخل للدولة بها ,ودعا إلى فصل الدين عن الدولة و إعطاء اليهود حقوقهم كاملة باعتبارهم مواطنين في أوطانهم، وهدم بذلك المفهوم العبراني التراثي الذي يوحد بين العقيدة اليهودية والشعب اليهودي ويجعل من إسرائيل "شعب الله المختار" الذي يحركه الأمل المسيحاني للعودة إلى صهيون . فاليهودية عنده عقيدة دينية وليست شعبا ( [39]  ).
الهسكلاه ( 1750-1880 )
نشأت الهسكلاه ( حركة التنوير اليهودي في شرق أوروبا  ومعناها الحكمة أو التنوير) مستقلة عن اتجاهات مندلسون ومثلت استجابة اليهود الأوروبيين لتحديات العصر ومحاولة التوافق مع روحه وتياراته الليبرالية، ولذلك كانت المهمة الرئيسية لها عبور العزلة التقليدية لليهود والتخلي عن المفهوم القومي اليهودي التقليدي والمحافظ والاندماج في الأمم والأوطان التي يعيشون فيها، مع الأخذ بمبادئ الإصلاح الديني .
انتشرت الهسكلاه في أوروبا بتأثير الثقافات الغربية , الانجليزية والفرنسية والألمانية ،كما تأثر الشباب اليهودي البولندي بفلسفة مند لسون ولاقت نجاحا في ألمانيا وروسيا رغم قوة التراث التلمودي بين يهود روسيا، ودعت إلى التخلي عن العزلة والانغلاق واكتساب معارف الأمم التي يعيشون فيها وعاداتهم وتطلعاتهم كما استبدلت التلمود بدراسة المواد الحديثة وعارضت التعصب والغييات "الحصيدية" ودعت إلى اشتغال اليهود بالزراعة والحرف اليدوية والتمشي مع روح العصر. والجدير ذكره أن الحركة الإصلاحية الاندماجية لم تؤدِ إلى زوال اليهودية بثقافتها وتراثها واندثار اليهود، بل على العكس صاحب حركة التنوير اليهودي انبعاث للثقافات اليهودية والتاريخ اليهودي وظهرت الشخصية الطيبة اليهودية لتحل محل الشخصية اليهودية التقليدية في الأدب الانجليزي.
وظهر تيار تقدمي بين الحاخامين أنفسهم في ألمانيا دعا إلى إصلاح اليهودية نفسها والتخلي عن مفهومها المسيحاني وانتظار المسيح وأن لا تعترف بشيء غير الأمة الألمانية، واعترف مجلس برسلاو بالسلطة السياسية بكل بلد، وقرر مجلس فرانكفورت أن استخدام العبرية ليس إلزامياً، ولم يوافق على بقاء المفهوم المسيحاني في الصلوات ودعا إلى الأخوة الإنسانية  ( [40]  ) .
بعد وفاة منديلسون (1776)م حمل لواء التنوير اليهودي دافيد فرندلاند الذي رفض تعاليم الحاخامين باعتبارها لا تتماشي مع روح العصر، كما رفض الأمل المسيحاني والعودة إلى صهيون وانتظار مملكة إسرائيل، ودعا إلى الاندماج بين الجماعة اليهودية والمسيحية المحررة من الدوغما وفقا للنزعة الإنسانية السائدة .
ويعد ابرهام جاجر من أهم مفكري الحركة الإصلاحية إذ دعا إلى تركيز الدين كله في الشعور والتقوى الشخصية، ودعا إلى تأويل الدين اليهودي على شاكلة المسيحي، وشن حملة على المحافظين الذين يقدسون الطقوس والقوانين التلمودية ودعا إلى حذف وإسقاط جميع الإشارات المتعلقة بخصوصية الشعب اليهودي من الطقوس الدينية ومن العقيدة والأخلاق والأدب حتى يتحقق انصهار اليهود في المجتمعات التي يعشون فيها، ولجا جاجر إلى التأويل في الفكرة المحافظة التي تنتظر المسيح ليعيدهم إلى صهيون وأعطاها مفهوما جديدا يتنبأ بخلاص العالم ومجيء  عصر يشارك فيه جميع البشر في إحقاق الحق وإقامته في كل مكان ( [41] ).
لقد أفضى هذا التأويل الذي لجأت إليه اليهودية الإصلاحية لعقيدة المسيح المنتظر إلى تجريد هذه العقيدة من مضمونها السياسي(من مضمون العودة إلى فلسطين) واستبدالية بالمعنى الروحي (معنى الرسالة الإنسانية العالمية) على طريقة الكنائس الإصلاحية المسيحية في تأويلها للعقيدة المسيحية .
 
صراع الإصلاح والمحافظة
كانت موجة الإصلاح عاتية ,وعقيدة الاندماج وتحطيم الجيتو هي الطاغية , ونشأ الصراع مع أصحاب عقيدة الجيتو اليهودية التراثية المحافظة التي هبت تدافع عن مكانتها التي اهتزت وعقيدتها التي تقهقرت أمام العقيدة الاصلاحة وتأويلاتها الجديدة لكل أسس العقيدة المحافظة , بما يخدم حركة الاندماج والإصلاح .
دار الصراع حول مصير اسرائل ,وتمسك أصحاب العقيدة المحافظة بالمقولات التالية ( [42] )  :
·   الله هو الذي أعطى الشرع، والتطبيق الكامل للشريعة لا يتأتى إلا باسترداد فلسطين خاصة وأن هناك أجزاء معطلة بسبب الشتات ولا يجوز ممارستها إلا بالعودة إلى الأرض المقدسة .
·        اليهودي خارج فلسطين مقضي عليه بمخالفة إرادة الله، بعد أن تعطل عن ممارسة الشرائع والطقوس.
·        اسرائيل رهينة للمنفى والشتات بعد أن طردت وشردت , وهي فترة امتحان أو اختبار لا يعرف مداها إلا الله.
·   إسرائيل قدرها أن تصبر وتنتظر، وهي تصلى وتدعو لمجيء المسيح ليخلصها، وعندها يعود المشتتون إلى أرضهم فلسطين، وحينها تعود إسرائيل مرة أخرى أمة كاهنة تعمل وفق شريعة التوراة . ومع خلاص اسرائيل تعم البشرية العدل والسلام.
·   وحتى تتم المحافظة على هوية إسرائيل في الشتات ولا تتعرض هويتهم للخطر من الأغيار ,لابد من التمسك بالأسوار التي تحيط بها وتدعم وجودها,ولابد من تثبيت ذكريات فلسطين في الأذهان والتمسك بالشريعة والبعد والانعزال عن الأمم "الأغيار".
لم تتمكن العقيدية الجيتوية  الانعزالية من شق طريقها بين يهود أوروبا وظل تيار الاندماج والذوبان في الأوطان هو السائد حتى عشرينيات وثلاثينيات القرن 19 . ووصلت نسبة الزيجات المختلطة في ألمانيا حوالي 54% من عدد الزيجات لليهود , وذلك على الرغم من الهجرة المضادة لليهود من البلدان السلافية الشرقية هربا من الاضطهاد والمذابح التي تعرضوا لها هناك على اثر دخول تلك البلدان بالتحولات الرأسمالية ودخول المجتمعات اليهودية هناك أزمة عنيفة ,شبيهة بتلك التي عاشتها في غرب أوروبا من قبل في مرحلة التحول في الغرب . فقد نقلت هذه الهجرات المشكلة من الشرق إلى الغرب ,وأدت إلى بروز تيارات معارضة للسامية ,ولكنها لم تتغلب على تيار الاندماج الذي ظل مهيمناً ([43]) .
الثورة الفرنسية وعصر الاندماج
أدت مناخات التنوير والتحرير في القرن الثامن عشر، ثم الانقلاب الصناعي في القرن التاسع عشر إلى صعود ونضج حركة التشكل القومي البرجوازي في الغرب خلال هذين القرنين، وكانت هذه المناخات هي البوتقة التي انصهرت فيها الصراعات الدينية والفئوية والطائفية. ويعتبر قرار الجمعية الوطنية الفرنسية ( 17-9-1891 ) المستند إلى وثيقة حقوق الإنسان التي أعلنتها الثورة ,باعتبار اليهود المقيمين في فرنسا مواطنين لهم حقوق المواطن وعليهم كل واجباته, نقطة فاصلة بين حياة العزلة في الجيتو و بين الصفحة الجديدة من تاريخ اليهود. فهذا التاريخ هو بمثابة الرمز لمرحلة بكاملها من التاريخ اليهودي الأوروبي شملت القرنين الثامن والتاسع عشر ثم العشرين .فبعد أن انتزعت البرجوازيات المحلية سوقها من اليهودية التراثية والوسيطة ودورها المالي الربوي واستقر لها النفوذ والسطوة، تراجعت صراعاتها مع الماليين الربويين اليهود ,وتقدمت خطى الاندماج في الغرب بخطى متسارعة ,وفتح جيتو روما أبوابه ,وكذلك في ألمانيا التي تأخر فيها تحرير اليهود عنه في انجلترا وفرنسا والأراضي الواطئة بسبب تخلف برجوازيتها وبطء نموها الرأسمالي في البداية قياسا بدول الغرب الأخرى، حيث أرسيت أسس تحرر اليهود القانونية في بروسيا سنوات ( 1808-1812 ) عندما دعا ملك بروسيا رعاياه لخدمة العلم لمحاربة نابليون وكانت استجابة اليهود كغيرهم رغم معاملتهم السابقة كمنبوذين([44]).
وما سبق لا يلغي وجود بعض التراجعات والنكسات في أحوالهم في ألمانيا حيث ألغى نابليون بعض الحقوق التي أقرتها لهم الثورة .وبعد سقوط نابليون أعاد ملك بروسيا وأمراء ألمانيا بعض القيود ,وبقيت بعض المهن محرمة عليهم. كما أن القليل منهم سكن المدن الكبرى لان سكانها من الطوائف المهنية التي تضمر كرهاً شديدا لليهود، ومع ذلك فقد اتسع نطاق المهن التي سمح لهم بدخولها في القرن الـ 18 واحتل بعضهم مراكز بارزة في تجارة الأنبذة وبرزت أسماء لعائلات يهودية كبيرة من أصحاب البنوك في مطلع القرن الـ 19 ( ال روتشيد – ال شيال – وهيرسين ) الذين أصبحوا من كبار الاغنيا ء. وفي 1907م فاقت البنوك اليهودية البنوك الغير يهودية في العدد، فقد غطى المصرفيون اليهود بين أعوام 1800و 1810 حوالي 80% من قروض طرحتها حكومة بافاريا، إلا أن غالبية اليهود ظلت تعيش في فقر مدقع. وفي السنوات الأوالى من القرن الـ 19 برزت بدايات الاندماج الثقافي والاجتماعي لليهود الألمان واقترنت لغتهم ( الييدشية ) أكثر بالغة الألمانية وتخلت غالبية اليهود عن الاعتقاد بأنهم امة وشعب , وطالب المتحدثون باسمهم بالمساواة الكاملة باعتبارهم مواطنين ألمان، وسقطت العناصر المسيحائية والقومية من الديانة والعبادات ,ودخل عدد كبير من الشباب والعائلات اليهودية في المسيحية وأصبح العماد تذكرة دخول للحضارة والثقافة الأوروبية، وأصبح ما يفصل بين اليهود وغيرهم أمر شكلي ويجب أن يزال، حتى أن بعض رجال اللاهوت اليهودي قال بان اليهودية قد ماتت وقدر البعض الآخر لزوالها فترة لا تتعدى  العشرين عاما. لقد فقدت اليهودية التراثية الجامدة أي معني في أعين الأكثرية اليهودية في عصر هو عصر انهيار لأي جمود أو عقيدة جامدة , ولم يعد لليهودية كتراث جامد ومتخلف إلا القليل ليجتذب العقول المثقفة المستنيرة أمام تأثيرات المنورين وفلسفات كانت وهيجل وجيتة ([45] ) .
 
هزيمة نابليون –هزيمة العقل
تمخضت هزيمة نابليون عن ردة وتراجع عميقين عن قيم ومفاهيم الثورة والتنوير والعقلانية،كما تمخضت أحدات سنة 1794 الدامية بفرنسا وسقوط اليعاقبة  واعدام روبسبير عن خيبة أمل، بعد الامال التي انعشتها الثورة , وانتقلت الرومانسية إلى مواقع تبرير المحافظة والرجعية والثورة المضادة , التي مثلها انذاك الحلف المقدس بزعامة امبرطور النمسا مترنيخ .
عبر الفكر الرومانسي عن حالة انسحاب من الحاضر المؤلم إلى ماضٍ موهوم , وجدت فيه الطبقات الوسطى الحل الأمثل ,وكان المهرب من خيبة الأمل واليأس، بحثا عن جنة مفقودة في الماضي، في زمن الاستقرار في العصور الوسطى , وبدا الملوك في اعين الرومانسيين في أبهة الملك رغم ما اقترفوه من مظالم ,وغفروا لرجال الدين ولم يبق من ذكراهم سوى الكائدراتيات بالغة الروعة والجمال التي خلفوها ([46]) .
وبُعثت الكاثولكية من جديد في ألمانيا وفرنسا , وتراجعت التيارات العقلانية في الدين ومذاهب البروتستانتية الإصلاحية في عصر التنوير , وأخلت مساحات واسعة لحركة احياء ديني عمادها العاطفة والقلب كطريق للإيمان والحدس طريقا للمعرفة وبديلاً للعقل، ووجدت هذه الدعوات دفعا قويا على يد المذهب الانجيلي الذي انتشر في انجلترا وامريكا , حيث استبدلوا بالبرهان العقلي التجربة الدينية المباشرة وتجربة الخلاص ونقاوة القلب، وأصبح الاهتمام بالقضايا الجماهيرية ظاهرة عامة في حركة الاحياء الديني لمواجهة الحركة الجماهيرية المتصاعدة , خاصة حركة الاحياء الديني الكاثوليكي , وعبر ساتوبريان في كتابه " عبقرية المسيحية سنة 1802" عن حركة الاحياء الديني ,باعتذاره للمسيحية ضد الرفض من جانب التنوير والثورة الفرنسية . لقد تحولت جميع تيارات الاحياء البروتستانتية والكاثوليكية إلى أدوات مباشرة بيد القوى الرجعية المحافظة , وشملتها ردة كاملة عن عصر العقل والاستنارة وعودة إلى الكثير مما عفا عليه الزمن , وتميزت بضيق الافق والنزوع الغيبي الفج والتمسك الحرفي بالتوراة ([47]) .
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
(3)
جذور الصهيونية اليهودية
تنتمى المسيحية واليهودية إلى جذر اجتماعي واحد, مهما اختلفت العقائد والممارسات الدينية الطائفية , فالمنبع الذي ينهلان منه واحد . وكما تأثر اليهود والعقيدة اليهودية بالمناخ الفكري والسياسي والاجتماعي لعصر التنوير والعقل وانعكس الإصلاح الديني المسيحي وموجة العقلانية الليبرالية السياسية على الإصلاح الديني اليهودي خلال القرن الـ18 , تأثروا بعصر الردة ومعاداة العقل في القرن الـ 19 .
كما إن الانقلاب الصناعي وانتشار المكننة وتزايد معانيات الجماهير بسبب تزايد حدة استغلال وتكديس الثروة ,أدي إلى تفاقم الصراع الاجتماعي. وإزاء فشل الثورات الليبرالية في مطلع القرن وخيبة الأمل في شعارات الليبرالية ونداءها, تعاظمت موجة الرومانسية الرجعية السياسية والفكرية والدينية كتعبير عن الضياع واليأس وفقدان الثقة بالعقل, وبدأت تنتشر الأفكار العرقية والمعادية للسامية , وانتشر مفهوم " غير المسيحي " الذي ينطبق على الأخص على اليهودي ,الذي اعتبر كائن مجرد من المشاعر المسيحية الحقيقية , وعاد الأدب يصور شخصية اليهودي المادي الجشع . لقد كان لهذه الردة الرومانسية انعكاساتها على اليهود , سواء  على الصعيد الديني اليهودي أو الحاخامين اليهود ,وظهرت دعوات جديدة في إطار ما عرف " بالصهيونية اليهودية " ,قبل أن تظهر الصهيونية السياسة, حيث كانت الاولى الممهدة لها ومدخلا للردة الفكرية ,فانتشرت أفكار " الخلاص " و" جيش الخلاص " و " دكاكين التوبة " , التي تدعو للخلاص عن طريق الدين وتقوى القلب والعودة إلى احضان المسيح، كما ارتفعت الدعوات للعودة إلى التلمودية وتراث القبالة الصوفي اليهودي , والعودة إلى اورشليم من جديد لاحياء الامل المسيحائي  اليهودي القديم الذي اسقطته اليهودية الاصلاحية . وكان ابرز المعبرين عن المسيحية اليهودية ([48]) : -
 
أ.الحاخام يهوذا القالي ( حاخام عاصمة الصرب سنة 1825 ) :
دعا القالي في كتاباته إلى خلاص اليهود عبر الارتداد إلى أساطير القبالة الصوفية والتلمودية، وفي كراسة " اسمعي يا اسرائيل " الذي نشره سنة 1834 اقترح اقامة مستعمرات يهودية في فلسطين , لتكون مقدمة ضرورية " للخلاص المنتظر " .
ولتحقيق الخلاص الذاتي ,دعا إلى عقد جمعية عامة كبرى وقيام صندوق قومي لشراء الاراضي ( هناك تطابق مع هرتسل في كتابه الدولة اليهودية سنة 1896 ) .
وفي كتابه " الخلاص الثاني " عام 1834 ,فسر الخلاص الجديد على اساس استيطاني في فلسطين بقصد تعمير الارض " الخراب " ,واعتبر العودة الجماعية بمثابة بداية الخلاص الذي وعد به جميع الأنبياء .
ورغم رفض الغالبية الساحقة من اليهود هذه الدعوات, إلا أن القالي ظل يعمل بدأب على بعث النصوص التلمودية والأساطير القديمة لدعم دعواه.
ب.الحاخام  رفي هيرشن كاليشر ( 1795-1874):
 يعد كاليشر من ابرز ممثلي تيار الردة الديني, وكان حاخام بلدة نورن البولندية لمدة 40 عاماً، حيث ووقف في وجه حركة الإصلاح.
اعتبر كاليشر العذاب والشقاء الذي يلاقيه اليهود بمثابة امتحان للإيمان وبداية لحدوث الخلاص , عبر التطوع والذهاب إلى فلسطين بقصد الاستيطان , وطاف البلدان الأوروبية محرضاً على تنفيذ مشروعه" الخلاصي " بين اليهود . وبتأثير دعوته اشترت جماعة من اليهود أرضا في ضواحي يافا سنة 1866 , كما أقامت جمعية " الأليانس  الإسرائيلية " التي تأسست بفرنسا مدرسة زراعية لتشجيع شراء الاراضي واقامة المستوطنات الزراعية.
والمدقق في دعاوي الصهيونية اليهودية ,سيلاحظ اختلاط الحجج التلمودية السلفية بنزعات القومية الرجعة والردة إلى الماضي بالعرقية التاريخية , والتي مهدت الطريق للصهيونية السياسية في اطار أمل الخلاص المسيحائي الرومانسي .
 
صعود القومية الرجعية في أوروبا
على اثر هزائم ثورة سنة 1830 ,ثم انتفاضات سنة 1840 ,تحول الكثير من الليبراليين والديمقراطيين إلى قوميين محافظين , حيث تقدمت قضية الوحدة القومية لتحل في مركز الاهتمام الاول ,على حساب قضيتي الحرية والديمقراطية كما حدث في ألمانيا البسماركية . كما إن الطابع الراديكالي الاجتماعي لهذه الثورات  والدور البارز للتنظيمات والأحزاب الاشتراكية الصاعدة فيها , أثارت خشية شريحة واسعة من الليبراليين ودفعت بهم إلى صفوف المحافظين. ذلك إن الفكر الاشتراكي أصبح طرفا فاعلا في الساحة الأوروبية في تلك الحقبة.
ومن جهة أخرى ,كانت القوى الرجعية بعد هزيمة نابليون وقيام الحلف المقدس قد ادركت بأن الوطنية تشكل أقوى راية يمكن أن تلف حولها الأمة , فركبت موجة القومية الصاعدة – رغم عدائها للقومية المتحررة والديمقراطية – ولكن على أساس قطع أي علاقة بين الحرية الليبرالية والانبعاث القومي , اذ حولتها إلى معاني التوسع والغزو والضم والإلحاق تحقيقاً لمصالحها ( [49] )  .
وعبرت الرومانسية الرجعية فكرياً عن هذه التحولات , فساهمت في تفجير المشاعر القومية , من خلال التراث وعراقة التاريخ والأصل ,وعملت على تكريس الخصائص القومية الحياتية للشعوب, وأصبحت القومية الشغل الشاغل للجميع , وتجسدت في العادات والتقاليد الشعبية واللغة التي تربط الأمة وتحفظ تراثها وتحمل روحها وتاريخها، مما ادى إلى بروز الفكر العرقي العنصري بصورته الفجة والبشعة ,التي أوصلت إلي النازية والفاشية لاحقا . واتجهت المذاهب الرومانسية إلى عبادة الدولة ووقفت مع القوى الرجعية المحافظة , بصرف النظر عن نظام الحكم او السلطة ,فدعمت اتجاهات رجعية ( مثل دزرائيلي في انجلترا ) وحكومات استبدادية ورجعية.
وفي الجانب اليهودي,تأثر الفكر اليهودي في هذه المرحلة بالنظرة الرومانسية للغة باعتبارها الوعاء الحافظ لروح الشعوب وأصالتها وتفردها ورسالتها التاريخية , خاصة وان تراث التفرد والأصالة التاريخية له مكانة خاصة في تراثهم الديني، وبرز اهتمام مفرط لدى المفكرين الصهاينة الأول ,أمثال سمولينسكين وبن يهوذا وغيرهم , ببعث اللغة العبرية كلغة قومية ووعاء للتاريخ التراثي اليهودي ورمز للتفرد والاستعلاء ,وأداة لتحقيق الحلم الصهيوني , مثلما تاثروا بالمفهوم الرومانسي والدين السلفي عن السلام الاجتماعي والتآخي والمحبة والتعاون كأساس للتنظيم الاجتماعي ,باعتبارها من دعامات الفكر الصهيوني ومفهومه القومي ,الأمر الذي سنجده في أخلاقيات الرواد الصهاينة والمستعمرين الأوائل لفلسطين ( [50]  ).
بناء على ماسبق ,يمكننا القول بان تيار الفكر الصهيوني اليهودي هو تيار ينتمي إلى تيارات القومية الرجعية الشوفينية والعنصرية ,وفرع من فروعها وتنويعاتها، وهي لا تنتمي إلى تيار القومية التحررية الديمقراطية ,التي دكت حصون الإقطاع وبنت دولتها القومية التقدمية ,الأمر الذي يؤكد زيف الادعاءات الصهيونية بأنها " حركة تحرير قومي " تنتمي إلى تيار القومية التحررية .
 
ظهور القومية الثقافية في ألمانيا
تخلفت ألمانيا لمدة قرنيين عن الثورة لصناعية , وذلك بسبب الازمة والتدهور الأقتصادي الذي أصابها نتيجة للخراب الذي خلفته الحرب , واكتشاف امريكا الجديدة وطرق الهند التجارية .كما أن حركة الإصلاح الديني , التي صاحبها تدمير الامتيازات الاقطاعية في فرنسا وانجلترا ,أدت في ألمانيا إلى دفع هذه الامتيازات لمرتبة السيادة ,فكل وحدة اقطاعية تمتعت بنفس حقوق الدولة الكبرى، وعانت ألمانيا من الحروب والتمزق , وجاء صلح أوجسبورج ليكرس هذا التمزق  .
ترتب على عجز البرجوازية الالمانية في تحقيق ثورتها الليبرالية وبناء دولتها المستقلة إلى توّلد إحساس بالعجز ,ادى إلى نمو القومية الالمانية الثقافية والى الانبهار بفكرة الاستنارة العالمية .ذلك إن فلاسفة الاستنارة ومفكريها الالمان حولوا عجز طبقتهم إلى نجاحات وانجازات ضخمة في الفكر والثقافة , وحلت القومية الثقافية والاعتزاز المفرط بالثقافة محل القومية السياسة المحبطة والمفتقدة ( [51] ) .
ومع طغيان الرجعية القومية في ألمانيا وأوربا وجد المفكرون  الصهاينة في مفهوم القومية الثقافية مبررا وسنداً للمناداة بقومية أخرى تبدو مشابهة في الظاهر للقومية الثقافية الألمانية . ونجد ذلك عند هس الألماني وسمولينسكي الروسي في دعاواهم عن "الأمة الروحية " التي ترتكز على التوراة، نجدها عند بن أليعازر,الذي عمل بدأب لأحياء اللغة العبرية الحديثة ..فإسرائيل عنده هي " شعب الروح " مثلما هي عند ليوبنسكر وغيرهم من المفكرين الصهاينة الذين وجدوا في القومية الثقافية ضالتهم ليصبوا فيها قومتهم المتخيلة التي تفتقد مقومات الأمة , على العكس من القومية الألمانية ([52]).
 
موسى هس رائد الصهيونية السياسية العنصري
يعتبر هس (1811-1875)الداعية الاول للصهيونية السياسية "والقومية اليهودية " الشوفينية العرقية.  بدأ هس حياته كثوري بارز واشتراكي , ثم تحول إلى الرومانسية الرجعية والعرقية القومية . ويصفه هرتزبيرغ ( [53])بأنه كان رجلا من رجال القرن الـ19 بالكامل , الذين انغمسوا في ثورات العصر ,وبعد أن هزمت ,هزموا وقد استغقلت امام اعينهم طريق الثورة . لقد شارك هس في سنوات الـ48 العاصفة بالثورة، وحكم عليه بالإعدام وهرب حاملا معه كل عوامل الهزيمة والسقوط قيل إن تهزم الثورة .
جاءت ردة هس في مناخ عصر الردة ,واشتداد الأصوات التي تتحدث عن السمات العضوية للروح القومية ,وقيم وشعارات جديدة محورها الدم ولأرض ,اذ أصبحت الشعوب ( فولك) الألمانية كائنات عضوية هائلة تتطور وفق سماتها العرقية الخاصة بفعل قواها وقوانينها الداخلة ,وأصبح البحث عن عبقرية الأمة ورسالتها والعوامل التي تتظافر في تكوين وإنماء هذه العبقرية وفي مقدمتها العرق والدم والسمات المتفردة ككل . ففي سنة 1853 نشرت العنصرية الحديثة أول كتبها الكلاسيكية لجوبينيو " مقال في عدم المساواة بين الاجناس البشرية" , ثم بعد ذلك ظهرت موجة العداء للسامية التي عبر عنها فاجنر وشامبرلين وجورج فون شوترز . وكان هس اول من أخذ هذا المذهب الجديد وضمنه لمنظومته الفكرية العنصرية ([54]).
 
* تلخيص لأفكار هس ([55]) :
- منذ القدم تعرض الشعب اليهودي للغزو , حتى كاد أن يباد على يد الاغراب ولولم بحتفظ بكل صفاته العرقية لذاب وانمحى .
- رغم تشتته بين الشعوب فقد كان على الشعب اليهودي إن يتخلى عن هويته أو يذوب , ولكن اليهودية تدين بخلودها إلى خصوبة عبقريتها الدينية .
- التاريخ حتى يومنا هذا هو تاريخ الصراع بين الاعراق والطبقات .
- العرق اليهودي عرق نقي , وهو الذي يولد صفاته , ورغم كل تأثيرات الاجواء والمناخات المختلفة ظل الطابع اليهودي ثابت على مر العصور.
- روما المقدسة كانت على الدوام مصدر كل الشرور لليهود , وبالقضاء على مصدر الشر الذي يستمد منه أعداء السامية المسيحيون كل حججهم , ينمحي العداء للسامية .
- الشعب اليهودي الذي قاوم ألفي عام انتظارا لهذا البعث , يعي رسالته التاريخية ويطالب بحقوقه الوطنية.
- تأمل اليهود منذ مندلسون في المساواة السياسية والاجتماعية , دون جدوى ، رغم اسهامهم في الثقافة والحياة الالمانية .
- يرفض " الأوهام العقلانية "  التي تنكر الدلالة القومية للدين اليهودي ويشن حربا على الإصلاحيين الاندماجيين اللذين فصلوا الدين عن السياسة ,متجاهلين المنابع العميقة للحياة القديمة التي ألهمت الأدب التلمودي والتوراة .
- طالما انكر اليهودي قوميته وافتقد الشجاعة ليعترف بها , سيزداد حاله سوءاً ولن تعترف شعوب اوروبا به ولن تعترف به طالما ينكر قوميته ويجعل منها دينا . فالقومية اليهودية مقوم اساسي من مقومات اليهودية.
- الاندماج طعم وفخ يسقط فيه اليهودي , والخطر يأتي على اليهودية من المصلحين الدينيين الذين امتصوا نخاع اليهودية ومن طقوسهم الجديدة المخترعة .
- اليهودي التقي قبل كل شيء وطني, واليهودي الحديث الذي ينكر قوميته هو مارق ومرتد وكافر وخائن لشعبه.
- واقع المسألة اليهودية القومية واضح ، ففي ألمانيا يتفق الليبرالي والرجعي على كره اليهود والعداء للسامية.
- لامفر من اللاسامية, فالألمان يكرهون اليهودية باعتبارها عرقا بأكثر ما يكرهونها كدين . ومقتهم لعقيدة اليهودي أقل بكثير من نفورهم من انفه المميز .
- اليهودية منذ بدية التاريخ المقدس لم تتوقف عن الاعلان عن نهاية الأيام، فنحن  في " سبت التاريخ ", بمعنى  خلاص البشرية.
- الشعب اليهودي هو الوحيد الذي له دين قومي وعالمي معا ,وبفضل اليهودية أصبح تاريخ الانسانية تاريخا مقدسا .
- الأخلاق اليهودية التراثية تنطوي على عنصر اشتراكي ,  وهي مؤسسة على العائلة وتتميز بالتضامن الاجتماعي والأخلاق الاجتماعية , بعكس المسيحية ( هذا الاتجاه قامت عليه لاحقا دعاوى الحركة الصهيونية كحركة سياسية في صفوف الحركة العمالة اليهودية ).
بقي أن نقول بان هس ارتبط ,منذ البداية , بالسياسات والمشاريع الكولونيالية بشكل صريح ومباشر , حيث اندفع وراء أمل التحالف بين فرنسا الكولنيالية واليهود في الشرق الأدنى لتحقيق حلم العودة . وفي عام 1867م قدم مشروعا لاستعمار الارض المقدسة وتكوين مستعمرات عسكرية يهودية ,حتى تتمكن من صد غارات العدو, وتحدث عن الأمة اليهودية الجديدة التي ستقوم كحارس على ملتقى القارات , ومعلما للشعوب الشرقية المتخلفة
 ( دور مميز ورسالة خاصة للدولة اليهودية داخل اطار رسالة التمدن والتحضر التي تضطلع بها دول الغرب في ركاب غزواتها وفتوحاتها في تلك المرحلة ) . ولاحقا صاغ تيودورهرتسل نفس الفكرة في عبارته الشهيرة لوصف دولته اليهودية " سويسرا يهودية " تقوم كنموذج ومثال لليبرالية الارستقراطية بين امم الشرق المتخلفة([56]).
من خلال العرض السابق يتضح لنا بان هس قد صاغ الايدولوجية الصهيونية السياسية وحدد معالم مشروعها العنصري الاستيطاني  المرتبط مع الاستعمار الكولنيالي قبل إن يصدر كتاب " الدولة اليهودية " لهرتسل عام 1886 , الذي اعتبر تجسيدا للايدولوجية الصهيونية , حتى إن هرتسل نفسه علق على كتاب " روما والقدس " قائلا " كل شيء حاولناه يمكن العثور عليه في أثاره " وان ليس في كتابه " الدولة اليهودية" ما يخرج عن الافكار التي سبقه إليها هس([57] ).
 
المشكلة اليهودية وتناقضات الرأسمالية
في مرحلة نشؤ الرأسمالية الأوروبية , واكتشاف العالم الجديد واشتداد حركة التبادل التجاري وارساء الأسس لنمو الرأسمالية الصناعية , وانهيار المراكز القديمة للصناعات الحرفية وتجارة العصور الوسطى .. انهارت الوظيفة الاقتصادية والاجتماعية لليهود في الغرب واضطر القسم الأكبر منهم لمغادرته إلى الشرق الأوروبي والبحث عن ملجأ في البلدان التي لم تلحقها الموجة الرأسمالية ولم تنفذ إلى مبناها الإقطاعي . وتعرض التجار اليهود للطرد من اسبانيا والبرتغال ومن المدن التجارية في ألمانيا وكولومبيا وصقلية ونابولي والبندقية , وذلك في القرنين الـ 15-16 .
أما من تبقى منهم في الغرب , فساروا على طريق الاندماج بعد انقضاء طور النشأة الرأسمالية ,وازاحة اليهود المرابين وتجار العالم الإقطاعي القديم ( [58]  ) .
وفي بداية القرن الـ 19 كانت الغالبية الكبرى من اليهود تسكن في أوروبا الشرقية , خاصة في بولندا حيث وجدت طبقة التجار اليهود الميدان فسيحاً لنشاطها  وعملوا كتجار ومرابين ووسطاء , وكانت المدن اليهودية الصغيرة , الغارقة في بحر من القرى الفلاحية التابعة للإقطاعيين , المكان الذي يدير منه اليهود اقتصادا تجاريا في اطار مجتمع إقطاعي خالص .
ومع انهيار الاقطاع لصالح الرأسمالية في شرق أوروبا خلال القرن الـ 19 , بدأت معانيات جماهير اليهود حيث اندثرت مراكز التجارة , وحلت محل المدن الصغير لليهود مدن صناعية وتجارية كبرى، مما أدى إلى هجرة داخلية , لليهود وغيرهم , للمدن الكبرى .
ابتداءً من 1881 وحتى نهاية القرن العشرين تعرض اليهود لإضطهادات عرقية ومذابح وتحولت موجات الهجرة للخارج , إلى غرب أوربا وأمريكا ,حيث بلغت أرقام قياسية،بسبب غزو الالة ومنافستها للورش اليدوية الصغيرة لليهود , والاستعباد والطرد للعامل اليهودي.
لقد أدى اقتلاع اليهود من مواقعهم الاقتصادية والتراثية والتاريخية إلى بعث الحياة من جديد في جسم اليهودية المحتضر في ذلك الحين , وكاد أن يهدم ما بنته الرأسمالية من اندماج وذوبان في الغرب.
كما أن المهاجرين من الشرق حملوا معهم أجواء المحافظة والتقاليد التراثية اليهودية الجامدة , ما شكل عامل ردة وعائق أمام طريق زوال المسألة اليهودية عبر الاندماج في الغرب , وغذت نزعات العرقية والعداء للسامية التي ظهرت نهاية القرن .
وأدى اغتيال القيصر الروسي الكسندر الثاني , وتولي الاكسندر الثالث إلى تدهور الموقف وصدور قوانين مايو 1882 الاستثنائية ,التي فرضت سياسة تفرقة عنصرية أدت إلى مذابح تطورت منذ 1881 حتى أصبحت مشهد ثابت على المسرح الروسي، لأن الحكومة شجعتها، ووجدت بها مخرجاً مفيدا لها , في ظل الأزمة التي تعيشها بسبب جمودها وازماتها.
هذه الأجواء هيأت لبروز الاتجاهات القومية العرقية والاقتصادية بين الجماهير , وعبرت عن نفسها في مظاهر العداء للسامية , والعرقية.
وفي غرب اوروبا ووسطها , كان رد الفعل على الهجرة اليهودية الجماعية الكثيفة من الشرق , حيث أذكت نزعات العداء للسامية بين الطبقات الوسطى .
واشتد هذا التيار في ألمانيا في النصف الثاني من القرن الـ19 , بعد أزمة اقتصادية شديدة دمرت أعداد كبيرة من التجار والحرفيين. وبعد الانهيار المالي عام 1873 , تفاقمت الحركة المعادية للسامية بشدة، وفي فرنسا جرى تطور مشابه نهاية القرن بعد قضية " ديفورس " , وكذلك في النمسا التي لم تستوعب رأسماليتها الهابطة جموع اليهود المقتلعين ([59]).
 
 
 
 
 
تبلور الصهيونية السياسية في حركة
أدت التطورات الاقتصادية والاجتماعية السابقة إلى نمو نزعات قومية يهودية ,ودعوات لإحياء الأمة اليهودية , وانتشرت اللغة الييديشية , وتساوقت هذه مع نزعات العنصرية والعداء للسامية حيث شكلت وجهها الآخر , واكتسبت زخما متزايدا في بلدان التركيزات السكانية اليهودية ( روسيا – بولونيا – أمريكا)([60] ) .
ونشأت منظمات " أحباء صهيون " في روسيا القيصرية في النصف الثاني من القرن الـ 19 ودعت إلى  هجرة اليهود إلى فلسطين. إلاّ أنها لم تترك أثرا عميقا في حياة جماهير الطوائف اليهودية , ولم يلب هذه الدعوة إلا العشرات ([61] ). 
وفي العام 1896 ظهر كتاب تيودور هرتسل " الدولة اليهودية " والذي بلور من خلاله الايدولوجية الصهيونية السياسية المعاصرة ,من منطلقات مماثلة لمنطلقات اليهودي الروسي ليوبنسكر التي وصفها في كتابه " التحرر الذاتي" وكذلك مشابهة لمنطلقات اليهودي الألماني موسى هس في كتابه " روما والقدس " الذي سبق ليوبنسكر. إلا أن دعوات من سبقوا هرتسل لم تجد اطارا تنظيميا للتعبير عنها . لقد اقترنت الحركة الصهيونية بهرتسل لأنه قرن ايدولجيته بالمنظمة الصهيونية التى نشأت بعد المؤتمر الصهيوني الأول الذي عقد في بال في سويسرا عام 1897 , والذي اعتبرت مقرراته مخططا عمليا لإقامة الوطن القومي لليهود , بوصفه كيانا استيطانيا مرتبطا بالمشروع الاستعماري الاستيطاني للدول الامبريالية ( [62] ). 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
الخلاصة
-   يسود اعتقاد لدى الكثيرين بان الحركة الصهيونية تبدأ بهرتسل وتنتهي بإقامة دولة إسرائيل في 14 أيار 48، وهذا برأينا اعتقاد خاطئ، فقد ارتبطت الايدولوجيا الصهيونية بهرتسل وصهيونيته السياسية لأنه لم يكتف ببلورة الفكرة الصهيونية في كتابه "الدولة اليهودية"، وإنما قام بتأسيس الإطار التنظيمي والحامل المادي للفكرة، عبر دعوته للمؤتمر الأول للحركة الصهيونية في العام 1887 الذي أعلن عن قيام المنظمة الصهيونية العالمية، وأعلن عن برنامجها.
-   الفكرة الصهيونية بدأت مع حركة الإصلاح الديني المسيحي في القرن الـ 16، حيث تمت ترجمة التوراة، ونادت البروتستانتية بالعودة إلى الكتاب المقدس (والتوراة تشكل الجزء الأكبر منه)، ودعت إلى التمسك بحرفية النص، بوصفها كلمة الله المعصومة، وأحيت  فكرة عودة المسيح والألفية السعيدة، وأساطير "شعب الله المختار" وعودة الشعب اليهودي لأرضه المقدسة" وذلك كمقدمة "للخلاص"، وغيرها من الأساطير.
وكان لهذه الأفكار أثرها البالغ في أوروبا المسيحية، حيث لم يقتصر أثرها على البعد الديني، بل انعكست في شتى المجالات الأدبية والاجتماعية، والأخلاقية، والسياسية، وغيرها.
-   وبالتوازي مع حركة الإصلاح الديني المسيحي، وبتأثيرها، ظهرت حركة الإصلاح الديني اليهودي، التي كان لها تأثيرها الكبير على يهود أوروبا، حيث حررتهم من غلال الجيتو والعقيدة التوراتية التراثية الجيتوية الجامدة، وفتحت آفاق الاندماج والذوبان لليهود في الشعوب التي يعيشون فيها وينتمون لها، وكان تيار التنوير والاندماج كاسحاً لدرجة أن بعض الحاخامات تنبأوا بزوال اليهودية، وآخرين قدروا زوالها بعد عشرين عاماً.
-   في القرن الـ 19 ظهرت الصهيونية اليهودية، وذلك بتأثير الردة الفكرية وصعود التيارات الرجعية والمحافظة، بعد هزيمة نابليون وصعود الحلف المقدس الرجعي بقيادة مترنيخ، حيث تراجعت التيارات العقلانية، وأخلت مساحات واسعة لصالح حركة الإحياء الديني التي تقدس الماضي، وبعثت الكاثوليكية من جديد، وعبرت الرومانية الرجعية عن حالة الضياع وفقدان الثقة بالعقل واليأس خصوصا لدى الطبقات الوسطى..وبدأت تنتشر الأفكار العرقية والمعادية للسامية فظهرت دعوات جديدة سميت بـ"الصهيونية اليهودية"، مهدت لظهور الصهيونية السياسية لاحقاً، وانتشرت "أفكار الخلاص" و"دكاكين التوبة"، واشتدت الدعوات للعودة إلى التلمود وتراث القبالة الصوفي، ولإحياء الأمل المسيحاني اليهودي القديم. وعبر هذا التيار عن حالة من الانقلاب على أفكار وقيم الإصلاح الديني والإصلاح والاندماج.
-   وبتأثير هزائم انتفاضات عام 1848، وطغيان الرجعية القومية في ألمانيا وأوروبا، ظهر رائد العنصرية السياسية الصهيوني موسى هس، ودعا إلى "قومية يهودية شوفينية، ونادى بعودة اليهود إلى فلسطين كسبيل وحيد للخلاص، مدعياً استحالة حياة اليهود بين الشعوب، بسبب لا ساميتها واضطهادها لليهود.
-   طوال المراحل السابقة، وحتى نهاية القرن 19 وبداية ال20، ظل تيار الاندماج هو السائد والمهيمن، وذلك على رغم من الأحداث التي تعرض لها اليهود، ابتداءً من فقدانهم لوظيفتهم الاجتماعية (التجارة) في مرحلة نشوء الرأسمالية في القرنين الـ 15 + 16، وما تعرضوا له من تهجير و اضطهاد ومذابح، مما اضطرهم للهجرة إلى أوروبا الشرقية الإقطاعية، مرورا بتجديد المذابح والاضطهاد في دول أوروبا الشرقية في القرن الـ 19، بفعل التحولات التي طرأت على البرجوازية هناك، والتي أدت لفقدانهم وضيفتهم الاجتماعية من جديد، وهجرة أعداد واسعة إلى أوروبا الغربية والوسطى والولايات المتحدة.
-   ما تعرض له اليهود أدى لنمو دعوات إحياء الأمة اليهودية، وانتشار اللغة الييدشية، وذلك بالتزامن مع نزعات العنصرية واللا سامية في أوروبا الشرقية وألمانيا تحديداً، وبذا أصبح الاضطهاد والهجرة عائق قوي للاندماج وعامل محفز للنزعة القومية. ولكن تحولت هذه النزعة إلى أداة دمج وإذابة لليهود في المراكز الحضرية الكبرى.
-   لم تكن نزعات "البعث القومي اليهودي" والنزعات القومية المتشددة تعبر عن تشكل قومي حقيقي أو نهوض قومي كما عرفته الأمم الأوروبية الأخرى، من فعل برجوازية نامية تبني أمتها..بل كان رد فعل على الأزمة ودليل انحدار وتدهور، تنبعث حيث تضيق الفرص وحين تغلق النوافذ في وجههم للاندماج في آلية الإنتاج الرأسمالية، في حين يتم الذوبان والاندماج حين تتوفر الفرصة([63]).
-   لا يمكن فهم الصهيونية أو إسرائيل بمعزل عن السياق التاريخي لتطور فكرة الصهيونية بعلاقتها بتيارات الفكر الأخرى، وتحديداً الأوروبي، وبدون ربط القديم بالجديد على مستوى تيارات الفكر السائدة والمهيمنة في الثقافات الغربية على وجه الخصوص.
وبهذا الصدد يكفينا الإشارة إلى تيار الأصولية الإنجيلية الأميركية، والتي أخذت تنتشر وتتوسع منذ منتصف التسعينات، بالتزامن مع بدء الأزمة الاقتصادية والركود والكساد في مختلف بلدان العالم الرأسمالي. ولأن الأزمة في أمريكا أكثر عمقاً، حيث تتخبط في حل أزمة اقتصادية وتخرج منها إلى أزمة أخرى، بالإضافة إلى الأزمة الاجتماعية والروحية الشاملة، فإن تيار الأصولية المسيحية الصهيونية أكثر عمقاً وتأثيراً، وأشد تأُثيراً في السياسة الأميركية العدوانية ([64]).
لقد اعتبرت هذه الأصولية قيام إسرائيل عام 48 علامة على ما يسمونه "مباركة الله ووفاء لشعب الله"، ويقدمون دعمأً غير مشروطاً لإسرائيل، ويعتبرونها خط الدفاع الأميركي الأول في الشرق الأوسط.
ولا يكتفون بحدود إسرائيل الحالية بل يطالبوا بامتدادها من النيل إلى الفرات، ويسخر هذا التيار كل إمكاناته الكنسية والإعلامية لدعم ترشيح أعضاء كونفرنس ورؤساء الدولة، ولعل نجاح الرئيس الأميركي بوش في الانتخابات الأخيرة يؤكد حجم التأُثير الواسع لهم في المجتمع الأميركي، مثلما يعكس خطر هذا التيار من تيارات الصهيونية، ليس فقط على شعبنا وأمتنا، وإنما على العالم أجمع، وذلك يعود لعدوانية وعنصريته.
وأخيراً، فإن الفهم الواعي والعميق للصهيونية، بجذورها وارتباطاتها الكونية، يشكل شرطاً أساسياً لصياغة البرنامج النضالي الوطني الفلسطيني والقومي العربي لمواجهة هذا الخطر المحدق بالأمة العربية والشعب العربي الفلسطيني.
 
                                                                                    انتهى




 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
المراجع
1-   توما، أميل: جذور القضية الفلسطينية، الأعمال الكاملة، المجلد الرابع، حيفا 1995.
2-   ديمتري، أديب: نفي العقل، مؤسسة عيبال للدراسات والنشر، قبرص، ط1، 1993.
الشامي، رشاد: الشخصية اليهودية الإسرائيلية والروح العدوانية، عالم المعرفة، الكويت،1986.
3-   الشريف، ريجينا: الصهيونية غير اليهودية، عالم المعرفة، الكويت، 1985.
4-   صايغ، أنيس: الفكرة الصهيونية – النصوص الأساسية، بيروت، مركز الأبحاث، 1970.
5-   المسيري، عبد الوهاب: الأيديولوجية الصهيونية، دار المعارف، الكويت، الجزء الأول، 1998.
 
 


[1] - أميل توما، جذور القضية الفلسطينية، الأعمال الكاملة، المجلد الرابع، حيفا، 1995، ص 57.
[2] -  ريجينا الشريف: الصهيونية غير اليهودية، عالم المعرفة، الكويت، 1985، ص21.
[3] - المرجع نفسه، ص29.
[4] - نفس المرجع، ص 21 -22.
[5]  نفس المرجع، ص 21.
[6]  - أديب ديمتري، نفي العقل ، مؤسسة عيبال للدراسات والنشر، قبرص، 1993، ط1،ص 32.
[7] - نفس المرجع، ص 23 -24.
[8] - نفس المرجع، ص 24-25.
[9] - نفس المرجع، ص 19-26-27.
[10] - نفس المرجع، ص29-30.
[11] - نفس المرجع، ص35.
[12] - نفس المرجع، ص 37-51.
[13] - نفس المرجع، ص 39.
[14] - انظر بهذا الصدد نفس المرجع، ص 39.
[15] - نفس المرجع، ص 92.
[16] - نفس المرجع، ص 41.
[17] - في هذا العنوان استفدنا من كتاب ريجينا الشريف ، مرجع سابق ذكره، ص42.
[18] - نفس المرجع، ص 55 – 58.
[19] -  نقلاً عن ريجينا الشريف، الصهيونية غير اليهودية، المرجع السابق ، ص61.
[20] -  نفس المرجع، ص 59 -60.
[21] -  رشاد عبدالله الشامي، الشخصية اليهودية الإسرائيلية والروح العدوانية، عالم المعرفة، الكويت 1986 ، ص 19-20.
[22] - نفس المرجع ص20.
[23] - الغيتو: هو حي مقصور على احدى الأقليات الدينية أو القومية. ولكن الكلمة تستخدم هنا بشكل خاص للإشارة إلى أحياء اليهود في أوروبا. وأول حي أطلق عليه غيتو كان في البندقية عام 1516. وأصل الكلمة إيطالية " بورجيتو" وتعني قسم صغير من الحي.
[24] - الشتتل: تصغير لكلمة شتوت، وتعني مدينة صغيرة. وهو تجمع سكاني يهودي، يسكنه بين ألف وعشرين ألف نسمة. واستوطن فيه اليهود وعلى مقربة من النبلاء وفي وسط الفلاحين البولنديين.
[25] - نفس المرجع، ص 21-25.
[26] -  يعكس تعبير " جويم" الإيمان العميق لدى اليهود بحقارة أمم العالم فمعناها الشخص غير اليهودي، وتعني القذارة المادية والروحية والكفر.
[27] - نقلاً عن المرجع السابق ، ص 27.
[28] - نفس المرجع السابق، ص21.
[29] - عبد الوهاب المسيري: الأيديولوجية الصهيونية ، دار المعارف، الكويت، الجزء الأول، 1998 ، ص11.
[30] - نفس المرجع، ص 17.
[31] - نفس المرجع، ص17.
[32] - المرجع السابق ، ص18.
[33] - نفس المرجع، ص20.
[34] - نقلاً عن عبد الوهاب المسيري، المرجع السابق ص20.
[35] -نفس المرجع ، ص 28.
[36] - نفس المرجع، ص 31-32.
[37] - أديب ديمتري، مرجع سابق ذكره، ص 27-29.
[38] - نفس المرجع ، ص 29.
[39] - نفس المرجع، ص 30-33.
[40] - نفس المرجع، ص 35-37.
[41] - نفس المرجع، ص 38.
[42] - نفس المرجع، ص40 -.41.
[43] - نفس المرجع، ص 42 -43.
[44] - نفس المرجع، ص 49 -50 .
[45] - نفس المرجع، ص 51 -54.
[46] - نفس المرجع ، ص 71.
[47] - نفس المرجع، ص 73 -74.
[48] - أنيس صايغ : الفكر الصهيوني – النصوص الأساسية ، بيروت ، مركز الأبحاث ، 1970 ، ص 9 -12.
[49] -أديب ديمتري، المرجع السابق، ص 88.
[50] - نفس المرجع، ص 82 – 84.
[51] - نفس المرجع، ص  85.
[52] - نفس المرجع، ص 86.
[53] - نقلاً عن أديب ديمتري، المرجع السابق، ص 87.
[54] - نفس المرجع، ص 108 - 109.
[55] - نفس المرجع، ص 116-126.
[56] - المرجع السابق، ص 126.
[57] - نقلاً عن المرجع السابق، ص 106.
[58] - نفس المرجع، ص 134-135.
[59] - نفس المرجع السابق، ص 140.
[60] - نفس المرجع، ص 140.
[61] - أميل توما، جذور القضية الفلسطينية، مرجع سابق، ص 44.
[62] - نفس المرجع، ص 44.
[63] - إبراهام ليون: نقلاً عن أديب دمتري ، مصدر سابق، ص 40.
[64] - أديب ديمتري، مصدر سابق، ص 255.



#عماد_أبو_رحمة (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- جذور الصهيونية


المزيد.....




- الأردن.. عيد ميلاد الأميرة رجوة وكم بلغت من العمر يثير تفاعل ...
- ضجة كاريكاتور -أردوغان على السرير- نشره وزير خارجية إسرائيل ...
- مصر.. فيديو طفل -عاد من الموت- في شبرا يشعل تفاعلا والداخلية ...
- الهولنديون يحتفلون بعيد ميلاد ملكهم عبر الإبحار في قنوات أمس ...
- البابا فرنسيس يزور البندقية بعد 7 أشهر من تجنب السفر
- قادة حماس.. بين بذل المهج وحملات التشهير!
- لواء فاطميون بأفغانستان.. مقاتلون ولاؤهم لإيران ويثيرون حفيظ ...
- -يعلم ما يقوله-.. إيلون ماسك يعلق على -تصريح قوي- لوزير خارج ...
- ما الذي سيحدث بعد حظر الولايات المتحدة تطبيق -تيك توك-؟
- السودان يطلب عقد جلسة طارئة لمجلس الأمن للبحث في -عدوان الإم ...


المزيد.....

- المؤتمر العام الثامن للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين يصادق ... / الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين
- حماس: تاريخها، تطورها، وجهة نظر نقدية / جوزيف ظاهر
- الفلسطينيون إزاء ظاهرة -معاداة السامية- / ماهر الشريف
- اسرائيل لن تفلت من العقاب طويلا / طلال الربيعي
- المذابح الصهيونية ضد الفلسطينيين / عادل العمري
- ‏«طوفان الأقصى»، وما بعده..‏ / فهد سليمان
- رغم الخيانة والخدلان والنكران بدأت شجرة الصمود الفلسطيني تث ... / مرزوق الحلالي
- غزَّة في فانتازيا نظرية ما بعد الحقيقة / أحمد جردات
- حديث عن التنمية والإستراتيجية الاقتصادية في الضفة الغربية وق ... / غازي الصوراني
- التطهير الإثني وتشكيل الجغرافيا الاستعمارية الاستيطانية / محمود الصباغ


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - القضية الفلسطينية - عماد أبو رحمة - جذور الصهيونية